بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنّك إذا قلت : «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له» ، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على مفهوم ، هو معنى واحد لا عدّة معان ، كما يتوهّمه الناس. وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها ، وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلّق التي بين الفعل الذي هو «ضرب» ، وبين ما عمل فيه ، والأحكام الّتي هي محصول التعلّق.
وإذا كان الأمر كذلك ، فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من «عمرو» ، وكون «يوم الجمعة» زمانا للضرب ، وكون «الضرب» ضربا شديدا ، وكون «التأديب» علّة للضرب ، أيتصوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأوّل الذي هو أصل الفائدة ، وهو إسناد «ضرب» إلى «زيد» ، وإثبات «الضرب» به له ، حتى يعقل كون «عمرو» مفعولا به ، وكون «يوم الجمعة» مفعولا فيه وكون «ضربا شديدا» مصدرا ، وكون «التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلا للضرب؟
وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصوّر ، لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من زيد عليه ، و «يوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد ، و «ضربا شديدا» بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته ، و «التأديب» علة له وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك ، بان منه وثبت ، أنّ المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدّة معان ، وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا ، وعلى صفة كذا ، ولغرض كذا. ولهذا المعنى قول إنّه كلام واحد.
وإذ قد عرفت هذا ، فهو العبرة أبدا. فبيت بشّار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم ، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصّانع حين يأخذ كسرا من الذهب فيذيبها ثم يصبّها في قالب ، ويخرجها لك سوارا أو خلخالا. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض ، كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار. وذلك أنه لم يرد أن يشبّه «النّقع» بالليل على حدة ، و «الأسياف» بالكواكب على حدة ، ولكنه أراد أن يشبّه النّقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر (١) الكواكب وتتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد ، والبيت من أوّله إلى آخره كلام واحد.
فانظر الآن ما تقول في اتّحاد هذه الكلمة التي هي أجزاء البيت؟ أتقول : إنّ ألفاظها اتّحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم تقول : إنّ معانيها اتّحدت فصارت الألفاظ
__________________
(١) انكدر : أسرع. القاموس مادة «كدر» (٦٠٣).