اعلم أن قولهم : «إنّ التفسير يجب أن يكون كالمفسّر» ، دعوى لا تصحّ لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيّنّاه ، من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصّور ، ويدفعوه أصلا ، وحتّى يدّعوا أنه لا فرق بين «الكناية» و «التصريح» ، وأنّ حال المعنى مع «الاستعارة» كحاله مع ترك الاستعارة ، وحتى يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أنّ «المجاز» يكون أبدا أبلغ من الحقيقة ، فيزعموا أن قولنا : «طويل النجاد» و «طويل القامة» واحد ، وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة. [من المنسرح]
ولا أبتاع إلّا قريبة الأجل (١)
كحاله في قولك : أنا مضياف وأنك إذا قلت : «رأيت أسدا» ، لم يكن الأمر أقوى من أن تقول : «رأيت رجلا هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد» ، ولم تكن قد زدت في المعنى بأن ادّعيت له أنه أسد بالحقيقة ولا بالغت فيه وحتى يزعموا أنه لا فضل ولا مزيّة لقولهم : «ألقيت حبله على غاربه» ، على قولك في تفسيره : «خلّيته وما يريد ، وتركته يفعل ما يشاء» وحتّى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، مزيّة على أن يقال : «اشتدّت محبتهم للعجل وغلبت على قلوبهم» ـ وأن تكون صورة المعنى في قوله عزوجل : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ، صورته في قول من يقول : «وشاب رأسي كلّه» و «ابيض رأسي كلّه» وحتى لا يروا فرقا بين قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، وبين : «فما ربحوا في تجارتهم» وحتى يرتكبوا جميع ما أريناك الشناعة فيه ، من أن لا يكون فرق بين قول المتنبي :
وتأبى الطّباع على النّاقل (٢)
وبين قولهم : «إنّك لا تقدر أن تغيّر طباع الإنسان» ويجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس : [من السريع]
وليس لله بمستنكر |
|
أن يجمع العالم في واحد |
كحاله في قولنا : «إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد» ويرتكبوا ذلك في الكلام كلّه ، حتّى يزعموا أنّا إذا قلنا في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أن المعنى فيها : «أنه لما كان الإنسان إذا همّ بقتل آخر
__________________
(١) سبق ص (١٨١) هامش (١).
(٢) راجع ص (٢٧١) هامش (١).