ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف ، أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامّة الناس ، فيقع لذلك في العبارات التي يعبّر بها عنه ، ما يوهم الخطأ ، وإطلاقهم في «الاستعارة» أنها «نقل للعبارة عمّا وضعت له» ، من ذلك ، فلا يصحّ الأخذ به. وذلك أنّك إذا كنت لا تطلق اسم «الأسد» على «الرجل» ، إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بيّنّا ، لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة ، لأنك إنّما تكون ناقلا ، إذا أنت أخرجت معناه الأصليّ من أن يكون مقصودك ، ونفضت به يدك. فأمّا أن تكون ناقلا له عن معناه ، مع إرادة معناه ، فمحال متناقض.
واعلم أن في «الاستعارة» ما لا يتصوّر تقدير النقل فيه البتّة ، وذلك مثل قول لبيد : [من الكامل]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة |
|
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (١) |
لا خلاف في أن «اليد» استعارة ، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أنّ لفظ «اليد» قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبّه شيئا باليد ، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ «اليد» إليه ، وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشّمال في تصريفها «الغداة» على طبيعتها ، شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقبله ويصرّفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد ، استعار لها «اليد». وكما لا يمكنك تقدير «النقل» في لفظ «اليد» ، كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. ألا ترى أنه محال أن تقول : إنه استعار لفظ «اليد» للشّمال؟ وكذلك سبيل نظائره ، مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من أعضاء الإنسان ، من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة : [من الطويل]
إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت |
|
نواجذ أفواه المنايا الضّواحك (٢) |
فإنه لما جعل «المنايا» تضحك ، جعل لها «الأفواه والنواجذ» التي يكون الضّحك فيها وكبيت المتنبّي : [من الطويل]
__________________
(١) البيت في ديوانه (٢٣٠) ط ، دار القاموس الحديث ، وأورده القزويني في الإيضاح (٢٧٧) ، والمبرد في الكامل وعزاه للبيد ، وأساس البلاغة (يدي). والبيت من معلقته المشهورة ، والقرة والقر : البرد ، يقول : كم من غداة تهب فيها الشمال وهي أبرد الرياح ، وقد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم.
(٢) البيت لتأبط شرا في شرح الحماسة للتبريزي (١ / ٤٩) ، القرن بالكسر : المثل والكفؤ ، وتهللت : لاحت وظهرت من البشر والسرور.