خميس بشرق الأرض والغرب زحفه |
|
وفي أذن الجوزاء منه زمازم (١) |
لما جعل «الجوزاء» تسمع على عادتهم في جعل النّجوم تعقل ، ووصفهم لها بما يوصف به الأناسيّ أثبت لها «الأذن» التي بها يكون السمع من الأناسيّ.
فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنّه استعار لفظ «النواجذ» ولفظ «الأفواه» ، لأن ذلك يوجب المحال ، وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبّهه بالنواجذ ، وشيء قد شبّهه بالأفواه ، فليس إلّا أن تقول : إنه لمّا ادّعى أنّ المنايا تسرّ وتستبشر إذا هو هزّ السيف ، وجعلها لسرورها بذلك تضحك أراد أن يبالغ في الأمر ، فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور.
وكذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ «الأذن» ، لأنه يوجب أن يكون في «الجوزاء» شيء قد أراد تشبيهه بالأذن. وذلك من شنيع المحال.
فقد تبيّن من غير وجه أنّ «الاستعارة» إنما هي ادّعاء معنى الاسم للشيء ، لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبت أنها ادّعاء معنى الاسم للشيء ، علمت أن الذي قالوه من «أنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة ، ونقل لها عمّا وضعت له» كلام قد تسامحوا فيه ، لأنه إذا كانت «الاستعارة» ادعاء معنى الاسم ، لم يكن الاسم مزالا عما وضع له ، بل مقرّا عليه.
واعلم أنك تراهم لا يمتنعون إذا تكلموا في «الاستعارة» من أن يقولوا : «إنه أراد المبالغة فجعله أسدا» ، بل هم يلجئون إلى القول به. وذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى ، وأنه المستعار في الحقيقة ، وأن قولنا : «استعير له اسم الأسد» ، إشارة إلى أنه استعير له معناه ، وأنه جعل إياه.
وذلك أنّا لو لم نقل ذلك ، لم يكن «لجعل» هاهنا معنى ، لأن «جعل» لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء ، كقولنا : «جعلته أميرا» و «جعلته لصّا» ، تريد أنك أثبت له الإمارة ، ونسبته إلى اللصوصية وادّعيتها عليه ورميته بها.
وحكم «جعل» ، إذا تعدّى إلى مفعولين ، حكم «صيّر» ، فكما لا تقول :
__________________
(١) البيت في ديوانه : (٢ / ١٣٩) ، من قصيدة في مدح سيف الدولة ، ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاث مائة ومطلعها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم |
|
وتأتي على قدر الكرام المكارم |
وتعظم في عين الصغير صغارها |
|
وتصغر في عين العظيم العظائم |
والخميس : الجيش العظيم له الميمنة والميسرة والقلب والجناحان ، والزحف : التقدم. الجوزاء : أنجم معروفة ، والزمازم : جمع زمزمة ، وهي صوت لا يفهم لتداخله ، والمعنى : يقول هذا الجيش لكثرته قد عم الشرق والغرب وبلغ صوتهم الجوزاء وخصها بالذكر من سائر البروج لأنها على صورة الإنسان هذا قول الواحدي.