«صيّرته أميرا» ، إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة ، كذلك لا يصحّ أن تقول : «جعلته أسدا» ، إلا على معنى أنك أثبتّ له معاني الأسد. وأمّا ما تجده في بعض كلامهم من أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى» ، فمما تسامحوا فيه أيضا ، لأن المعنى معلوم ، وهو مثل أن تجد الرجل يقول : «أنا لا أسمّيه إنسانا» ، وغرضه أن يقول : إني لا أثبت له المعاني التي بها كان الإنسان إنسانا. فأما أن يكون «جعل» في معنى «سمّى» ، هكذا غفلا ، فممّا لا يخفى فساده. ألا ترى أنك لا تجد عاقلا يقول : «جعلته زيدا» ، بمعنى : سميته زيدا ولا يقال للرجل : «اجعل ابنك زيدا» ، بمعنى : سمّه زيدا و «ولد ابن فجعله عبد الله» ، أي : سمّاه عبد الله. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر.
وأكثر ما يكون منهم هذا التسامح ، أعني قولهم إنّ «جعل» يكون بمعنى «سمّى» في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، فقد ترى في التفسير أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى» ، وعلى ذاك فلا شبه في أن ليس المعنى على مجرّد التسمية ، ولكن على الحقيقة التي وصفتها لك. وذاك أنّهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث ، واعتقدوا وجودها فيهم ، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم «البنات» وليس المعنى أنّهم وضعوا لها لفظ «الإناث» ولفظ «البنات» ، من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال.
أو لا ترى إلى قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩] ، فلو كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة ، ولم يعتقدوا إثبات صفة لما قال الله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ). هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ، ولم يكن غير أن وضعوا اسما لا يريدون به معنى ، لما استحقّوا إلّا اليسير من الذمّ ، ولما كان هذا القول منهم كفرا. والتّفسير الصحيح والعبارة المستقيمة ، ما قاله أبو إسحاق الزجاج رحمهالله ، فإنه قال : إنّ «الجعل» هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء ، تقول : «قد جعلت زيدا أعلم الناس» ، أي وصفته بذلك وحكمت به.
ونرجع إلى الغرض فنقول : فإذا ثبت أن ليست «الاستعارة» نقل الاسم ، ولكن ادّعاء معنى الاسم وكنّا إذا عقلنا من قول الرجل : «رأيت أسدا» ، أنه أراد به المبالغة في وصفه بالشجاعة ، وأن يقول : إنه من قوة القلب ، ومن فرط البسالة وشدّة البطش ، وفي أن الخوف لا يخامره ، والذّعر لا يعرض له ، بحيث لا ينقص عن الأسد لم نعقل ذلك من لفظ «أسد» ، ولكن من ادّعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن «الاستعارة كالكناية ، في أنك تعرف المعنى فيها من طريق المعقول دون طريق اللّفظ.