وإذ قد عرفت أنّ طريق العلم بالمعنى في «الاستعارة» و «الكناية» معا ، المعقول ، فاعلم أن حكم «التّمثيل» في ذلك حكمهما ، بل الأمر في «التمثيل» أظهر.
وذلك أنه ليس من عاقل يشكّ إذا نظر في كتاب يزيد بن الوليد (١) إلى مروان ابن محمّد ، حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته :
«أمّا بعد ، فإنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّتهما شئت ، والسّلام» (٢).
يعلم أنّ المعنى أنه يقول له : بلغني أنّك في أمر البيعة بين رأيين مختلفين ، ترى تارة أن تبايع ، ، وأخرى أن تمتنع من البيعة ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمل على أي الرأيين شئت وأنّه لم يعرف ذلك من لفظ «التقديم والتأخير» ، أو من لفظ «الرّجل» ، ولكن بأن علم أنه لا معنى لتقديم الرّجل وتأخيرها في رجل يدعى إلى البيعة ، وأنّ المعنى على أنه أراد أن يقول : إنّ مثلك في تردّدك بين أن تبايع ، وبين أن تمتنع ، مثل رجل قائم ليذهب في أمر ، فجعلت نفسه تريه تارة أن الصواب في أن يذهب ، وأخرى أنه في أن لا يذهب ، فجعل يقدّم رجلا تارة ، ويؤخّر أخرى.
وهكذا كلّ كلام كان ضرب مثل ، لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ ، ولكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلّة على الأغراض والمقاصد. ولو كان الذي يكون غرض المتكلم يعلم من اللفظ ، ما كان لقولهم : «ضرب كذا مثلا لكذا» ، معنى ، فما اللفظ «يضرب مثلا» ولكن المعنى. فإذا قلنا في قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إيّاكم وخضراء الدّمن» (٣) ، إنه ضرب عليهالسلام «خضراء الدّمن» مثلا للمرأة الحسناء في منبت السّوء ، لم يكن المعنى أنه صلىاللهعليهوسلم ضرب لفظ «خضراء الدّمن» مثلا لها. هذا ما لا يظنّه من به مسّ ، فضلا عن العاقل.
فقد زال الشكّ وارتفع في أنّ طريق العلم بما يراد إثباته والخبر به في هذه الأجناس الثلاثة ، التي هي «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» المعقول دون اللّفظ ،
__________________
(١) هو أبو عبد الملك بلغ من العمر (٤٠) سنة ودامت ولايته خمسة أشهر توفي (١٢٦) ه. شذرات الذهب (١ / ١٧١).
(٢) انظر البيان والتبيين (١ / ٣٠١) مع بعض الإضافة ، وورد الحديث عنها سابقا.
(٣) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٧٢) ، وقال : رواه الدارقطني في الأفراد ، والعسكري في الأمثال ، وابن عدي في الكامل.