وكيف لا يكون في إسار الأخذة ، ومحولا بينه وبين الفكرة من يسلّم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات ، وأنها إنّما تكون فيها إذا ضمّ بعضها إلى بعض ، ثم لا يعلم أنّ ذلك يقتضي أن تكون وصفا لها ، من أجل معانيها ، لا من أجل أنفسها ، ومن حيث هي ألفاظ ونطق لسان؟
ذاك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه ، إلّا وهو يعلم ضرورة أنّ المعنى في «ضمّ بعضها إلى بعض» ، تعليق بعضها ببعض ، وجعل بعضها بسبب من بعض ، لا أن ينطق بعضها في أثر بعض ، من غير أن يكون فيما بينها تعلّق ، ويعلم كذلك ضرورة إذا فكّر ، أن التعلّق يكون فيما بين معانيها ، لا فيما بينها أنفسها. ألا ترى أنّا لو جهدنا كلّ الجهد أن نتصوّر تعلّقا فيما بين لفظين لا معنى تحتهما ، لم نتصوّر؟ ومن أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين : «مؤتلف» وهو الاسم مع الاسم ، والفعل مع الاسم ، و «غير مؤتلف» وهو ما عدا ذلك كالفعل مع الفعل ، والحرف مع الحرف. ولو كان التعلّق يكون بين الألفاظ ، لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف ، وأن لا يكون في الدنيا كلمتان إلّا ويصحّ أن يأتلفا ، لأنه لا تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ.
وإذا كان كلّ واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفرادا ، وأنّها إنّما تكون إذا ضمّ بعضها إلى بعض ، وكان يكون المراد بضمّ بعضها إلى بعض ، تعليق معانيها بعضها ببعض ، لا كون بعضها في النّطق على إثر بعض كان واجبا ، وإذا علم ذلك ، أن يعلم أنّ الفصاحة تجب لها من أجل معانيها ، لا من أجل أنفسها ، لأنه محال أن يكون سبب ظهور الفصاحة فيها ، تعلّق معانيها بعضها ببعض ، ثم تكون الفصاحة وصفا يجب لها لأنفسها لا لمعانيها. وإذا كان العلم بهذا ضرورة ، ثم رأيتهم لا يعلمونه ، فليس إلّا أن اعتزامهم على التّقليد قد حال بينهم وبين الفكرة ، وعرض لهم منه شبه الأخذة.
واعلم أنّك إذا نظرت وجدت مثلهم مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء. وذاك أنهم قد اعتمدوا في كلّ أمرهم على النّسق الذي يرونه في الألفاظ ، وجعلوا لا يحفلون بغيره ، ولا يعوّلون في الفصاحة والبلاغة على شيء سواه ، حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه ونطق بألفاظه على النّسق الذي وضعها الشاعر عليه ، كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته إلّا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذيا لا مبتدئا.
ونحن إذا تأمّلنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء منها على