شيء ، إنما يقع في النفس أنّه «نسق» ، إذا اعتبرنا ما توخّي من معاني النحو في معانيها ، فأمّا مع ترك اعتبار ذلك ، فلا يقع ولا يتصوّر بحال. أفلا ترى أنك لو فرضت في قوله : [من الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (١)
أن لا يكون «نبك» جوابا للأمر ، ولا يكون معدّى «بمن» إلى «ذكرى» ، ولا يكون «ذكرى» مضافة إلى «حبيب» ، ولا يكون «منزل» معطوفا بالواو على «حبيب» لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون «نسقا»؟ ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء نسقا وترتيبا ، إذا كان ذلك التقديم قد كان لموجب أوجب ن يقدّم هذا ويؤخّر ذاك ، فأمّا أن يكون مع عدم الموجب نسقا ، فمحال ، لأنه لو كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب «نسقا» ، لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النّطق على أي وجه كان «نسقا» ، حتى إنّك لو قلت : «نبك قفا حبيب ذكرى من» ، لم تكن قد أعدمته النسق والنظم ، وإنما أعدمته الوزن فقط. وقد تقدّم هذا فيما مضى ، ولكنّا أعدناه هاهنا ، لأن الذي أخذنا فيه من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد ، اقتضى إعادته.
واعلم أن «الاحتذاء» عند الشعراء وأهل العلم بالشّعر وتقديره وتمييزه ، أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبا ـ و «الأسلوب» الضّرب من النّظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك «الأسلوب» فيجيء به في شعره ، فيشبّه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها ، فيقال : «قد احتذى على مثاله» ، وذلك مثل أنّ الفرزدق قال : [من الطويل]
أترجو ربيع أن تجيء صغارها |
|
بخير ، وقد أعيا ربيعا كبارها (٢) |
واحتذاه البعيث فقال : [من الطويل]
أترجو كليب أن يجيء حديثها |
|
بخير ، وقد أعيا كليبا قديمها (٣) |
__________________
(١) البيت سبق في أكثر من موضع وسبق تخريجه ، راجع ص (٢٣٦) هامش رقم (١).
(٢) البيت في ديوانه (١ / ٢٧٢) ط ، دار صادر ، بيروت ، من ثلاث أبيات هو أولها في هجاء بني ربيع ابن الحارث رهط مرة بن محكان والبيتان اللذان بعده :
عتلّون ، صخابوا العشى كأنهم |
|
جداء من المعزى شديد يعارها |
إذا النجم وافى مغرب الشمس حاردت |
|
مقاري عبيد واشتكى القدر جارها |
(٣) البيت من قصيدة البعيث في النقائض (١٠٩ ، ١٢٥).