الدّلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به ، حتى يقال إن «رجلا» أدلّ على معناه من «فرس» على ما سمّي به وحتى يتصوّر في الاسمين يوضعان لشيء واحد ، أن يكون هذا أحسن نبأ وأبين كشفا عن صورته من الآخر ، فيكون «الليث» مثلا أدلّ على السبع المعلوم من «الأسد» وحتى أنّا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية والفارسية ، ساغ لنا أن نجعل لفظة «رجل» أدلّ على الآدميّ الذّكر من نظيره في الفارسية؟.
وهل يقع في وهم وإن جهد ، أن تتفاضل الكلمتان المفردتان ، من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم ، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة ، وتلك غريبة وحشية ، أو أن تكون حروف هذه أخفّ وامتزاجها أحسن ، ومما يكدّ اللسان أبعد؟.
وهل تجد أحدا يقول : هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم ، وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها ، وفضل مؤانستها لأخواتها؟.
وهل قالوا : لفظة متمكنة ، ومقبولة ، وفي خلافه : قلقة ، ونابية ، ومستكرهة ، إلا وغرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما ، وبالقلق والنّبوّ عن سوء التلاؤم ، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها ، وأنّ السابقة لم تصلح أن تكون لفقا (١) للتالية في مؤدّاها؟.
وهل تشكّ إذا فكرت في قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤] ، فتجلّى لك منها الإعجاز ، وبهرك الذي ترى وتسمع ، أنك لم تجد (٢) ما وجدت من المزيّة الظاهرة ، والفضيلة القاهرة ، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض ، وأن لم يعرض لها الحسن والشّرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية ، والثالثة بالرابعة ، وهكذا ، إلى أن تستقر بها إلى آخرها ، وأنّ الفضل تناتج ما بينها ، وحصل من مجموعها؟.
إن شككت ، فتأمّل : هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت ، لأدّت من الفصاحة ما تؤدّيه وهي في مكانها من الآية؟ قل : «ابلعي» ،
__________________
(١) لفقت الثوب ألفقه لفقا وهو أن تضم الشّقّة إلى الأخرى فتخيطهما. ولفق الشقتين : ضم إحداهما إلى الأخرى. اللسان / لفق / (١٠ / ٣٣١).
(٢) أنك لم تجد : مفعول «تشك».