واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها ، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.
وكيف بالشك في ذلك ، ومعلوم أنّ مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ، ثم أمرت ، ثم في أن كان النداء «بيا» دون «أيّ» ، نحو «يا أيتها الأرض» ، ثم إضافة «الماء» إلى «الكاف» ، دون أن يقال : «ابلعي الماء» ، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها ، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها ، ثم أن قيل : ، «وغيض الماء» ، فجاء الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنّه لم يغض إلّا بأمر آمر وقدرة قادر ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور ، وهو : (اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) ، ثم إضمار «السفينة» قبل الذّكر ، كما هو شرط الفخامة والدّلالة على عظم الشأن ، ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة «بقيل» في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص ـ التي تملؤك بالإعجاز روعة ، وتحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها ـ تعلّقا (١) باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب؟.
فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا ، أنّ الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة ، ولا من حيث هي كلم مفردة ، وأن الفضيلة وخلافها ، في ملائمة معنى اللّفظة لمعنى التي تليها ، وما أشبه ذلك ، مما لا تعلّق له بصريح اللفظ.
ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر ، كلفظ «الأخدع» في بيت الحماسة : [من الطويل]
تلفّتّ نحو الحيّ حتّى وجدتني |
|
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (٢) |
وبيت البحتري : [من الطويل]
__________________
(١) سياق الكلام : أفترى لشيء من هذه ... تعلقا باللفظ.
(٢) البيت للصمّة بن عبد الله القشيري في لسان العرب (وجع) ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (لفت) ، وفي شرح حماسة أبي تمام (٣ / ١١٤) ، واللّيت بالكسر : صفحة العنق ، وقيل : اللّيتان صفحتا العنق ، وقيل : أدنى صفحتي العنق من الرأس ، عليهما ينحدر القرطان. والأخدع : شعبة من الوريد ، وفي الحديث : أنه احتجم على الأخدعين والكاهل ، والأخدعان : عرقان في جانبي العنق خفيا وبطنا والجمع أخادع. اللسان (ليت) ، (خدع).