لم يرد أن يدّعي لهم الانفراد ، ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم ، ولكن أراد الذي ذكرت لك ، من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث ، ليحقق الأمر ويؤكّده.
ومن البين فيه قول عروة بن أذينة : [من الهزج]
سليمى أزمعت بينا |
|
فأين تقولها أينا (١) |
وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة ، ويجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها. هذا محال ، ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده ، فأوقع ذكرها في سمع الذي كلّم ابتداء ومن أوّل الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث ، فيكون ذلك أبعد له من الشك.
ومثله في الوضوح قوله : [من الطويل]
هما يلبسان المجد أحسن لبسة |
|
شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما (٢) |
لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصّفة عليهما ، ولكن نبّه لهما قبل الحديث عنهما.
وأبين من الجميع قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الفرقان : ٣] ، وقوله عزوجل : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة : ٦١].
وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدّث عنه يفيد التنبيه له ، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدّم فرفع بالابتداء ، وبني الفعل الناصب كان له عليه (٣) ، وعدّي إلى ضميره فشغل به. كقولنا في «ضربت عبد الله» : «عبد الله ضربته» ، فقال : و «إنما» قلت : «عبد الله» ، فنبّهته له ، ثم بنيت عليه الفعل ، ورفعته بالابتداء.
فإن قلت : فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدّث عنه بالفعل ، آكد لإثبات ذلك الفعل له ، وأن يكون قوله : «هما يلبسان المجد» ، أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال : «يلبسان المجد»؟
__________________
(١) البيت في ديوانه (٣٩٧ ـ ٤٠٠). وتقولها : بمعنى تظنها.
(٢) الشعر لعمرة الخثعمية ، ترثي ابنها ، وقال أبو رياش : هو لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية.
شرح الحماسة للتبريزي (٣ / ٦٠ ـ ٦٤).
(٣) أي : ومبنى الفعل الذي كان له ناصبا عليه.