مواطن العلم في القطر قديما :
كان العلم يدرس في تلك الأحقاب في أربع مدارس وهي القسطنطينية والإسكندرية ورومية وبيروت ، وقد أنشأ الرومان مدرسة في قيسارية ، وأخرى في آثينة ، وكان لصيدا على ذلك العهد مدرسة حكمة ذات شأن ، ولكن دون مكانة مدرسة جارتها بيروت. وقد ألغى يوستنيانوس مدارس قيسارية وآثينة والإسكندرية ، وأبقى مدارس رومية والقسطنطينية وبيروت ولقب بيروت بأم العلوم وظئر الشرائع. وأعفى ديوقليسيانوس قيصر الفقراء المتخرجين في مدرسة بيروت من الرسوم تنشيطا لهم. وقد خربت مدرسة بيروت قبل الإسلام بالزلازل التي تواترت على الثغر في القرن السادس للميلاد ثم حريق سنة ٥٦٠ م الذي التهم بيروت ومساكنها ومعاهدها.
وكان في غزة مدرسة قديمة تفاخر بمشاهير علماء البيان فيها وكان فصحاؤها على العهد اليوناني المرجع الأول في الفصاحة والبلاغة ، وكان في قيسارية في القرن الثالث للمسيح مدرسة علمية يعلم فيها أوريجين أحد رجال الكنيسة وتخرج منها الأسقف أوزيب أبو التاريخ الكنسي وقيل : إنه كان في أريحا مدرسة أسسها ايليا.
قال استرابون الجغرافي اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد : لم يبق في صور وصيدا فينيقيون يضربون في الآفاق للتجارة ، بل كان فيهما كثير من أصحاب علم الهيئة والعلوم الرياضية والخطباء والفلاسفة ، ومدارس تقتبس فيها كل العلوم البشرية ، وقد أنشأت صيدا في أيامنا كثيرا من الفلاسفة منهم بواتيوس تلميذنا وديودوت أبوه ، ونشأ في صور انتيباتر وقبله أبولون ، وكان في أيامنا فيلسوف اسمه بوسيدونيوس كان شيشرون يسمع خطبه.
وكانت اللغة اللاتينية ثم اللغة اليونانية لغة العلم في هذه الأحقاب ، ولم يكن السريان السكان الأصليون دون الرومانيين واليونانيين في تخريج الرجال ، ولا سيما في عهد النصرانية. فقد هبت في المئة الرابعة للميلاد اللغة الآرامية السريانية بحلب وجوارها من رقدتها ، فسار في طليعة أهلها كيرتونا الشاعر الكبير ، نشأ في حلب أو في صقعها ودرس الآداب السريانية في مدرسة الرّها ،