مرة أن نقوم بمشروع صناعي فيها فجاءنا أهل كل مذهب يريدون أن يستأثروا بأكثر المنافع لأبناء طائفتهم. ونحن كنا بالطبع نريد أن ينتفع به من يعمل ويعرف. وهكذا ضاع الوقت في المجادلة على غير طائل ولم نتقدم شبرا واحدا في الموضوع الأصلي ، وسقط المشروع وهو جنين لأن الناس هناك يريدون أن يقوم بذاك الروح. ولقد سررت أن رأيت في معملكم المسلم والمسيحي والإسرائيلي على اختلاف مذاهبهم. وكل فرد يعيش مع أخيه متساندا متعاطفا قلت له : ولذلك استغرب بعض عملة المدبغة سؤالكم أول أمس عن دين من رأيتموه فيه. فقال : ليس في العالم عمل اقتصادي قام على أساس الدين ، ولبنان الكبير غريب في حالته هذه فقلت له : هذه قاعدة قديمة سارت عليها دمشق منذ الفتح الإسلامي فكل من يحسن عملا يوسد إليه مهما كانت نحلته. فسرّ لقولي وسررت لتوفيقنا.
بقيت هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها وأعني بها تأثير الصناعات في الأخلاق. فقد ثبت أن الأقطار التي تكثر فيها الأعمال الصناعية والزراعية أحسن أخلاقا من غيرها ، ويقل فيها المتشردون والثرثارون ، لأن من طبع العاملين الأخذ بالنافع وترك الفضول على الجملة. ولذلك يضعف الشغب في أرباب الصنائع ، وتقل الموبقات المهلكات ، لأنها لا تبقي للعامل إلا الوقت الكافي لراحته ونومه ، وهو على ثقة من أنه إذا لم يحصر ذهنه في عمله يخرجه صاحب المعمل أو الحقل من خدمته. فالحكومة التي تحب أن يقل الشغب بين من وسد إليها أمرهم يجب عليها أن تفكر ليلها ونهارها في إيجاد أعمال رابحة لهم ، وبذلك يقل المتشائمون والمشاغبون والمرجفون والناقمون. وليس أحسن ولا أنجع من هذه السياسة.
لا جرم أن اشتراك أهل البلد الواحد بل القطر الواحد والمملكة الواحدة في عمل اقتصادي مما يرفع مستوى القومية أيضا ويلقن الناس معاني التكافل الوطني. فقد رأينا في الدهر السالف سكان الجنوب وسكان الشمال من فرنسا يقتتلون ويتحاربون ولم تنقطع شأفة الفتن من بينهم إلا عندما اشترك الجنوبي مع الشمالي في الأعمال الاقتصادية ، فأصبحت مصلحتهما واحدة وارتفع النزاع من بينهما وأحسا أنهما أبناء أمة واحدة. لذلك نرى إلى اليوم من بقايا تلك الأخلاق