النووي من حين انتشر وشاع في الناس وذلك قبل الهجرة النبوية بنحو ست سنين.
للأهوية والأهواء تأثير في العلم ، والعلوم ربيبة الأرض المعتدلة أو الباردة أكثر من الحارة والوبيئة ، لأن أهل هذه قصيرة آمالهم في الحياة ، محدودة مطالبهم ، فاترة هممهم ، مثلوم حدهم ، متداعية صحتهم. ومن صرف وكده أيضا إلى الأهواء المذهبية ضعف سلطان العلم فيه ، لتوزع قواه ، وانصراف رغبته عن الفانية إلى الباقية ، واشتغال ذهنه بأمور لا يتسع لغيرها في الأغلب. وكلما توغلت أمة في مضمار المدنية نظرت إلى علوم الدين وعلوم الدنيا نظرة واحدة ، وشرّفت ما تشتد حاجتها إليه منها ، وأقبلت بكليتها على المشتغلين بها. فقد رأينا جامعات اوربا في القرون الوسطى تنشأ لغرض الدين على الأكثر ، فلما عظمت مطالب البشر ، وأخذت المدنية تسير سيرها ، أصبحت العلوم الدينية في جامعاتهم تقرأ كما يقرأ التاريخ والأدب والطبيعة ، لا فضل لديني لاهوتي على طبيعي رياضي ، إلا بالأثر الناتج عن درسه وبحثه ، هذا إن لم يرجحوا في عرفهم العالم الثاني. وبينا نجد تماثيل العلماء بالمئات في شوارع الغربيين وساحاتهم ومتاحفهم ودور العلم والصناعات عندهم ، لا نشهد من علماء الدين إلا نفرا قليلا أقيمت لهم التماثيل داخل البيع والكنائس فقط.
كان الاقتصار على العلم الديني في الصدر الأول للإسلام ، ثم تسربت العلوم الدنيوية بسرعة ، ورأى علماء الأمة أنها نافعة لقوام الدين والدنيا ، وبذلك أقنعوا العامة ومن فوق درجتهم ، فأقبل الناس عليها ، وكانت العناية أولا بعلوم القرآن والسنة ، ثم أقبل الناس على الفقه لأن حالة الزمن اقتضت الإقبال عليه لتعدد الخصومات بين الناس واتساع المملكة الإسلامية وما حدث فيها من المشاكل والعضل ، ثم أقبلوا على علم الكلام ، لما رأوا الحاجة الماسة إليه خصوصا وقد دخلت فلسفة القدماء وصادفت لها أنصارا وعشاقا ، ثم مالوا إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة ، ثم كثرت العلوم بين العرب في المدن وضعفت وضعف سندها في القرن العاشر للهجرة ، إلى أن أخذت تتطور تطورا جديدا أواخر القرن الثالث عشر وأوائل هذا القرن على ما سيجيء.