وأهم العوامل في اضمحلال العلم في ديار الإسلام زهد الملوك والأمراء فيها واشتغال الناس بالفتن والغوائل. ومذ أخذ العلماء يتعلمون علوم الدين للجاه والمال ، ضعفت علوم الدين والدنيا معا. وأصبح السلطان للممخرقين والمعطلين والمتهوسين بمسائل الكشف والولاية من علماء الرسم ، وليس الغرض من العلوم كما قال ابن ساعد الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق ، وتهذيب الأخلاق ، على أن من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما وإنما يجيء شبيها بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ، ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد ، فأقاموا للعلم مأتما ، وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به ، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم ، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل ، فيكون ذلك سببا لارتفاعه ، ومن هنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها.
إن الذين يولعون بالعلم للعلم في هذا العالم قلائل جدا ، ولكنهم يكونون على الأكثر ممن نسميهم أو أكثرهم بأهل النبوغ والعبقرية ، يتفانون في مقصدهم ويأتون بالجديد يبدعون ويبرّزون على من اتخذوا العلم آلة للمظاهر وعنوانا للتصدر ، وهم هم الذين يذهبون بفضل الشهرة في الأرض ، وتبقى أعمالهم شاهدة لهم بعد موتهم أحقابا ودهورا ، ومن هذا الفريق أنجبت الشام قديما وحديثا جماعة افتخرت بهم ، وعدّوا بأعمالهم بالقياس إلى حال هذا القطر وإلى مجموع علماء الأمة كتلة صالحة أثرت تأثيرا محمودا في العلم والمدنية ، وقد عرفنا تراجم أكثر رجال العهد العربي لقربه منا ، ولا طراد التدوين في العرب في أغلب العصور على طريقة حسنة في الجملة ، فوقفنا بها على منازعهم وأعمالهم. وغابت عنا تراجم كثير من المهندسين والنقاشين والمصورين والموسيقيين لأن القوم على ما يظهر يحسبون هذا الصنف النافع من الناس من أهل الصناعات فقط لا من أهل العلم. كأن العلم كله على اختلاف ضروبه ليس صناعة من الصناعات. وقد اصطلح المتأخرون على أن المراد بالعلم إذا أطلق يقصد منه العلم الديني. ومن الغريب أن بعض المتأخرين ممن دوّنوا تراجم أهل عصورهم حرصوا على تراجم المجاذيب والممخرقين ولم يذكروا مثلا تراجم أهل تلك