الأيام من المقدرّين والبنائين وغيرهم ممن خلدوا بأعمالهم مدنية أعصارهم.
لم يتسلسل العلم قرونا طويلة في الشام تبعا لتغير الدول وانصراف الهمم «والعلم مذ كان محتاج إلى العلم» ذلك لأن الشام كان في جميع أدواره ممرا للفاتحين يطمع فيه جيرانه ، بل البعيدون عنه لتوسطه بين برّ آسيا وإفريقية وأوربا. والقدر الذي عرفناه من رسوخ العلم في ديارنا كاف ولا شك في إنشاء مدنية صالحة خصوصا إذا دعمها ما كان ينهال عليها من علوم أهل العراق والجزيرة ومصر والأندلس وفارس وغيرها. وكأن الشرق مني بالتساهل والإهمال ، وعدم التسلسل في الفكر والاطراد في العمل ، فكان مظهر الحياة الفردية في الأعم الأغلب من حالاته ، وعلى العكس في الغرب فإنه كان ولا يزال مثال الحياة الاجتماعية والتعصب للفكر والاستماتة فيه ، والتسلسل في الأفكار.
ولقد رأينا الغرب في قرونه الوسطى قبيل عهد النهضة يشتد في إرهاق الأفكار الحرة ، وديوان التفتيش الديني يحرق الأنفس البشرية بالعشرات للقضاء على الفلسفة والتجدد ، بيد أن الغرب كان إذا هلك فيه رجل بطريق الإلحاد والخروج عن مألوف القوم ، يقوم غيره من أخلافه في الحال يتناول ما بدأ به سلفه ، ناسيا أن الهلاك يحل به إذا اشتهر أمره. ورأينا في هذا الشرق القريب أناسا ينزعون إلى التجديد والإبداع كان نصيبهم من الحياة ضرب أعناقهم، أو إدخال الرعب على قلوبهم حتى قضوا أعمارهم في خمول وتقية ، وكان نصيب الأمة العربية أن يقل فيها جدا ظهور من يخلفهم في دعوتهم ، وقد يأتي العصر والعصران ولا يظهر فيهما نابغة يذكر وعالم مبدع ، وجاء زمن وهو ليس ببعيد ، وقد أصبح الناس ينكرون البديهيات في العلم ، ويحرمون ما حلل الله من ضروبه النافعة ، فغارت ينابيعه من أرضنا وفاضت في الغرب وزادت مع الأيام فيضانا ، وقويت تقية العلماء ودخل في غمارهم الجاهلون فسقطت هيبة العلم. وكان من نتائج عمل الغربيين تلك الحضارة الحديثة المدهشة ومن تفاشلنا وتجاهلنا هذا الانحطاط المحسوس وإضاعة مدنية الأجداد.
العلم ابن الحرية ، والأدب ربيب التسامح ، وقد شاهدنا أجدادنا في هذه الديار المثال الصالح في هذا الباب على اختلاف العصور والمذاهب ، وكان