العرب في أدوارهم المختلفة يمثلون أجمل صورة من هذا القبيل. فإن كانت أنطاكية وبيروت قبل الإسلام عاصمتي الحكمة والأدب والشرائع ، فقد امتازت بعدهما حلب والمعرة وطرابلس ودمشق وحمص بهذه الخصائص. والعلم بضاعة ثمينة لا تروج الرواج المطلوب إلا في ظل السلام وصلاح السلطان.
هذا شأن العلم ، أما الأدب وهو منظوم الكلام ومنثوره والخطب والرسائل فيتصرف أيضا على هذا المثال ، وبه أدركنا بعض الحالة الاجتماعية والروحية التي كانت عليها تلك الأعصر ، ورأينا فيه تبدلا محسوسا في القرون التالية ، فكانت الآداب في الشام في القرن الأول غيرها في القرن الثاني والثالث ، وقد استحكمت أسباب الحضارة وعم الترف ، ونقلت علوم الأوائل وراجت سوق الشعر في الرابع والخامس في الشمال ، وما لبثت في أواخر هذا القرن أن عراها الكساد قليلا ، ثم هبت إلى الحياة بعض الشيء في السادس والسابع تبعا للحالة السياسية التي كان عليها القطر زمن الحروب الصليبية ، ولم ينشأ في الشام خلال القرنين الثامن والتاسع شاعر يجوز عدّه في مصاف المفلقين على مثال شعراء القرن الثالث والرابع ، أما في القرون الأربعة التالية فضعفت حالة الشعر أكثر من ذلك بما لا يقدر ، وأصبح نظما لا شعرا فقد من أكثر ما نقل من الشعر الروح وبقي جسما له من الشعر قوافيه وأوزانه ، يطرس فيه المتأخر على مثال المتقدم وتتأثر أنفاس الابن بأنفاس أبيه وجده.
إن حكمنا على المنظوم يسوغ أن نورده في المنثور ، كان الإنشاء في القرنين الأولين للإسلام يسير مع الطبع غالبا ونبغ في الشام أفراد كعبد الحميد بن يحيى الذي وضع أساس الكتابة المرسلة ، ورأينا عمر بن عبد العزيز يكتب الكتاب في الإدارة أو السياسة أو القضاء أو في أمر مهم من أمور الدولة في سطرين أو ثلاثة ليس فيه شيء من الكلفة بتة بل هو آية الفصاحة والبلاغة ، وهكذا معظم آل بيته من بني أمية وبني مروان ، ومن نشأ في دولتهم أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وعتبة بن أبي سفيان وشهدنا التكلف باديا في كتابة القرون التالية التي انتقلت فيها صناعة الكتابة إلى بغداد أو القاهرة وضعف أمرها في الشام. وكان الشام يتبع العراق تارة ومصر تارة أخرى ، حتى إذا كان القرن السادس ، ونبغ في الدولة الصلاحية القاضي الفاضل