زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلا على نبوته ، قاهرا للمبعوث إليهم ، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات ، فذلك معنى قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي). وقيل : كان ملكا عظيما ، فخاف أن يعطى مثله أحد ، فلا يحافظ على حدود الله فيه ، كما قالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١). وقيل : ملكا لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي. ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول : ملكا عظيما ، فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته ، كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. انتهى.
ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه ، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) : أي الكثير الهبات ، لا يتعاظم عنده هبة. ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها ، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ). وقرأ الجمهور : بالإفراد ؛ والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وأبو جعفر : الرياح بالجمع ، وهو أعم لعظم ملك سليمان ، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس. (تَجْرِي) : يحتمل أن تكون جملة حالية ، أي جارية ، وأن تكون تفسيرية لقوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ). (بِأَمْرِهِ) ؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها. (رُخاءً) ، قال ابن عباس والحسن والضحاك : مطيعة. وقال مجاهد : طيبة. (حَيْثُ أَصابَ) : أي حيث قصد وأراد ، حكى الزجاج عن العرب. أصاب الصواب فأخطأ الجواب : أي قصد. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان؟ فقال : هذه طلبتنا. ويقال : أصاب الله بك خيرا ، وأنشد الثعلبي :
أصاب الكلام فلم يستطع |
|
فأخطأ الجواب لدى المفصل |
وقال وهب : حيث أصاب ، أي أراد. قيل : ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر ، وقيل :
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.