أن يغتر بتقلب هؤلاء الكفار في البلاد وتصرفاتهم فيها ، بما أمليت لهم من المساكن والمزارع والممالك والتجارات والمكاسب ، وكانت قريش تتجر في الشام والمين ؛ فإن ذلك وبال عليهم وسبب في إهلاكهم ، كما هلك من كان قبلهم من مكذبي الرسل.
وقرأ الجمهور : (فَلا يَغْرُرْكَ) ، بالفك ، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ زيد بن علي : وعبيد بن عمير : فلا يغرك ، بالإدغام مفتوح الراء ، وهي لغة تميم. ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول ، عليهالسلام ، من آيات الله ، ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة ، وما صار إليه حالهم من حلول نقمات الله بهم ، ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول ، عليهالسلام ، إليهم ؛ فبدأ بقوم نوح ، إذ كان عليهالسلام أول رسول في الأرض ، وعطف على قومه الأحزاب ، وهم الذين تحزبوا على الرسل. ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله ، ومنهم : عاد وثمود وفرعون وأتباعه ، وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل ، لأن الرسل لما عصمهم الله منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل. وقرأ الجمهور : (بِرَسُولِهِمْ) ؛ وقرأ عبد الله : برسولها ، عاد الضمير إلى لفظ أمة. (لِيَأْخُذُوهُ) : ليتمكنوا منه بحبس أو تعذيب أو قتل. وقال ابن عباس : ليأخذوه : ليملكوه ، وأنشد قطرب :
فأما تأخذوني تقتلوني |
|
فكم من آخذ يهوى خلودي |
ويقال للقتيل والأسير : أخيذ. وقال قتادة : (لِيَأْخُذُوهُ) : ليقتلوه ، عبر عن المسبب بالسبب. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) : أي بما هو مضمحل ذاهب لا ثياب له. وقيل : الباطل : الكفر. وقيل : الشيطان. وقيل : بقولهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (١). (لِيُدْحِضُوا) : ليزلقوا ، (بِهِ الْحَقَ) : أي الثابت الصدق. (فَأَخَذْتُهُمْ) : فأهلكتهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) إياهم ، استفهام تعجيب من استئصالهم ، واستعظام لما حل بهم ، وليس استفهاما عن كيفية عقابهم ، وكانوا يمرون على مساكنهم ويرون آثار نعمة الله فيهم ؛ واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة لأنها فاصلة ، والأصل عقابي. (وَكَذلِكَ حَقَّتْ) : أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة ، كونهم من أصحاب النار ، من تقدم منهم ومن تأخر. و (أَنَّهُمْ) : بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، فهي في موضع رفع ، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة. والمعنى : كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، وجب إهلاك هؤلاء ، لأن الموجب لإهلاكهم وصف جامع لهم ، وهو كونهم من أصحاب النار. وفي مصحف
__________________
(١) سورة يس : ٣٦ / ١٥.