حكى : مررت بكل قائما ، وببعض جالسا في الفصيح الكثير في كلامهم ، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم : مررت بهم كلا ، أي جميعا. فإن قلت : كيف يجعله بدلا ، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين؟ قلت : مذهب الأخفش والكوفيين جوازه ، وهو الصحيح ، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف ، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة ، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب ، لا نعلم خلافا في ذلك ، كقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) (١) ، وكقولك : مررت بكم صغيركم وكبيركم ، معناه : مررت بكم كلكم ، وتكون لنا عيدا كلنا. فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة ، فجوازه فيما دل على الإحاطة ، وهو كل أولى ، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه ، لأنه بدل من ضمير المتكلم ، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف.
ولما أجاب الضعفاء المستكبرون قالوا جميعا : (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) ، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة ، ولم يأت ضميرا ، فكان يكون التركيب لخزنتها ، لما في ذكر جهنم من التهويل ، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم. ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار ، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف ، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، فأجابوا بأنهم أتتهم ، (قالُوا) : أي الخزنة ، (فَادْعُوا) أنتم على معنى الهزء بهم ، أو فادعوا أنتم ، فإنا لا نجترئ على ذلك. والظاهر أن قوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) من كلام الخزنة : أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي. وقيل : هو من كلام الله تعالى إخبارا منه لمحمد صلىاللهعليهوسلم. وجاءت هذه الأخبار معبرا عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها.
ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم ، كما فعل بموسى عليهالسلام ، حيث أهلك عدوّه فرعون وقومه ، وفيه تبشير للرسول عليهالسلام بنصره على قومه ، (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، العاقبة الحسنة لهم ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) : وهو يوم القيامة. قال ابن عباس : ينصرهم بالغلبة ، وفي الآخرة بالعذاب. وقال السدّي : بالانتقام من أعدائهم. وقال أبو العالية : بإفلاح حجتهم. وقال السدّي أيضا : ما قتل قوم قط نبيّا أو قوما من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا. انتهى. ألا ترى إلى قتلة
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٤.