وللأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) ، كناية عن إيجادهما ، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد ، وهو محال ، وقد انتهى هذا الإيراد.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كان ، كما قال تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (١) معناه : إن يكن سرق. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين ، لأن ثم تقتضي التأخر ، وكان تقتضي التقدم ، فالجمع بينهما يفيد التناقض ، ونظيره : ضربت زيدا اليوم ، ثم ضربت عمرا أمس. فكما أن هذا باطل ، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى ، قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين ، والإيجاد يدل عليه قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) ، وهذا محال ، لا يقال للشيء الذي وجد كن ، بل الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين ، وقضاؤه بأن سيحدث كذا ، أي مدة كذا ، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.
والذي نقوله : أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني ، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان ، والمهلة كأنه قال : فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء ، فلا تعرض في الآية لترتيب ، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له. ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض ، ألف الأخبار فيه بثم ، فصار كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) بعد قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (٤). ومن ترتيب الأخبار (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (٥) بعد قوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) (٦). ويكون قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) ، بعد إخباره بما أخبر به ، تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى ، كقولك : أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له. فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت ، فحد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته. ويدل
__________________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ٧٧.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.
(٣) سورة البلد : ٩٠ / ١٧.
(٤) سورة البلد : ٩٠ / ١١.
(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٤.
(٦) سورة الأنعام : ٦ / ١٥١.