لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر ، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة ، وهو لم يشأ ذلك ، فكيف يشاء ذلك في البشر؟ (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) : خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان ، وغلب الخطاب على الغيبة ، نحو قولك : أنت وزيد تقومان. وما مصدرية ، أي بإرسالكم ، وبه توكيد لذلك. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي ، والضمير في به عائد عليه ، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال ، كان كفرا بالإرسال. وليس قوله : (بِما أُرْسِلْتُمْ) إقرارا بالإرسال ، بل هو على سبيل التهكم ، أي بما أرسلتم على زعمكم ، كما قال فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١).
ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال ، فصل بعد ذلك ، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين. فقال : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا) : أي تعاظموا عن امتثال أمر الله وعن ما جاءتهم به الرسل ، (بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي بغير ما يستحقون. ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم ، وهو الاستكبار ، وكان فعلا قلبيا ، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب ، (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) : أي لا أحد أشد منا ، وذلك لما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش. فرد الله تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة ، ومع علمهم بآيات الله ، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها ، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها. ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة ، وعبر بالقوة عن القدرة ، فكما يقال : الله أقدر منهم ، يقال : الله أقوى منهم. فالقدرتان بينهما قدر مشترك ، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة. كما يوصف الله تعالى بالعلم ، ويوصف الإنسان بالعلم.
ثم ذكر تعالى ما أصاب به عادا فقال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) في الحديث : «أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ، ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا». وروي أنها كانت تحمل العير بأوقادها ، فترميهم في البحر. والصرصر ، قال مجاهد : شديدة السموم. وقال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : من الصر ، أي باردة. وقال السدي أيضا ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والطبري ، وجماعة : من صرصر إذا صوت. وقال ابن السكيت : صرصر ، يجوز أن يكون من الصرة ، وهي الصيحة ، ومنه : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) (٢). وصرصر : نهر بالعراق. وقرأ الحرميان ،
__________________
(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٧.
(٢) سورة الذاريات : ٥١ / ٢٩.