«لا تخرج منه حتى أعود إليك» ، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : «هل رأيت شيئا»؟ قلت : نعم ، رجالا سودا مستثفري ثياب بيض ، فقال : «أولئك جن نصيبين». وكانوا اثني عشر ألفا ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول الله ، سمعت لهم لغطا ، فقال : «إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق». وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك.
(فَلَمَّا حَضَرُوهُ) : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. (قالُوا أَنْصِتُوا) : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور : (فَلَمَّا قُضِيَ) : مبنيا للمفعول ؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنيا للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالها ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما.
(مِنْ بَعْدِ مُوسى) : أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى ، وهذا لا يصح عن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) تنبيها لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل. و (إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) : غاير بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، (وَآمِنُوا بِهِ) : يعود على الله.