العام ، فكأنهم قالوا : لا ننفق ، ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم ، وهو الإطعام الذي به يفتخرون ، وهذا على سبيل المبالغة. كمن يقول لشخص : أعط لزيد دينارا ، فيقول : لا أعطيه درهما ، فهذا أبلغ من لا أعطيه دينارا. والظاهر أن قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين ، أي حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد الله إطعامه ، إذ لو أراد الله إطعامه لأطعمه هو. ويجوز أن يكون من قول الله لهم استأنف زجرهم به ، أو من قول المؤمنين لهم. ثم حكى تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل : لما توعدون به؟ أي متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به؟ أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به؟ وهو سؤال على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى ، ولا يتقي إلا مما يخاف ، وهم غير مؤمنين. سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم.
(ما يَنْظُرُونَ) : أي ما ينتطرون. ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ، وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون ، وهم يتخاصمون ، أي في معاملاتهم وأسواقهم ، في أماكنهم من غير إمهال لتوصية ، ولا رجوع إلى أهل. وفي الحديث : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه ، فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه ، فما تصل إلى فيه حتى تقوم». وقيل : لا يرجعون إلى أهلهم قولا ؛ وقيل : ولا إلى أهلهم يرجعون أبدا. وقرأ أبي : يختصمون على الأصل ؛ والحرميان ، وأبو عمرو ، والأعرج ، وشبل ، وابن فنطنطين : بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء ؛ وأبو عمرو أيضا ، وقالون : يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد ، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم ؛ وباقي السبعة : بكسر الخاء وشد الصاد ؛ وفرقة : بكسر الياء اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد. وقرأ ابن محيصن : يرجعون ، بضم الياء وفتح الجيم. وقرأ الأعرج : في الصور ، بفتح الواو ؛ والجمهور : بإسكانها. وقرىء : من الأجداف ، بالفاء بدل الثاء. وقرأ الجمهور : بالثاء ، وينسلون ، بكسر السين ؛ وابن أبي إسحاق ، وأبو عمرو : بخلاف عنه بضمها. وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها. ولا تنافر بين (يَنْسِلُونَ) وبين (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١) ، لأنه لا ينسل إلا قائما ، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد.
__________________
(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٨.