على تلك الأودية ، فسالت وحقق ما كان فيها من الأمل ، واستفزّ باسم الله فيها من سبق له الشقاء في الأزل ، وقالوا ليس بين الدّينين تضاد ، والمسيء من نصادفه وهو عن القبول صاد.
فصالحوا الروم على أداء ما كان يلزمهم ، وأمضوا من هذا الرأي ما اتفق عليه أعجزهم وأحزمهم ، وفتنوهم بما أظهروا لهم من كرامة يستحل قبولها الضعاف ، ويستحلى طعمها وهو السمّ الزعاف ، وهذا أعظم بلاء رمي به الناس ، وحق به البأس. فإن هؤلاء أعانوا النصارى بالأقوات والعلف ، ورفعوا عنهم ما كان أزعجهم وأعجزهم من الكلف ، واتخذوا منهم رجالا أنسوا منهم الإقبال ، فناطوا بهم الآمال ، وجلبوا لهم ألطافا ، وهزوا منهم أعطافا ، فاطمأنت بهم الدّار ، وتمكن لهم الحصار. ولو لا أنهم هادوهم وهادنوهم ، وسكنوا إليهم وساكنوهم ، وأمروهم فأطاعوا ، وماروهم بما استطاعوا ، لانفضوا بسبب الإنفاض من الميرة (١) ، وكان إعسارهم بالنفقة موجبا مفارقة الجزيرة (٢).
__________________
(١) الميرة : الطعام يمتاره الإنسان ، وهي جلب الطعام للبيع. وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم ميرا. وقد مار عياله وأهله يميرهم ميرا وامتار لهم. والميّار : جالب الميرة. ويقال للرّفقة التي تنهض من البادية إلى القرى لتمتار : ميّارة. لسان العرب ، ج ٥ ، ص ١٨٨.
(٢) تذكر الرواية المسيحية أن ابن عباد حين ارتد ودخل في خدمة الملك خايمي الأول ، قدم للمعسكر الصليبي عشرين فرسا محملة بالحبوب ولحوم الجديان والدجاج والعنب ، وقد حفظت هذه الميرة في أكياس. وظل ابن عباد رفقة من تنصر معه من أهل البادية يزودون المعسكر المسيحي بالمؤن والأغذية طوال فترة الحصار. فكانت هذه الخيانة من أسباب ضياع الجزيرة. ميجيل الكوبير ، الإسلام في ميورقة ، ص ص ٧٠ ـ ٧١.