ـ II السياسة والإيديولوجيا والثقافة في الكوفة
في حين لعبت الكوفة في القرن الأول الهجري / السابع الميلادي دورا سياسيا من المقام الأول ، فكانت منطلقا لعدد كبير من معاني الإسلام ومغازيه في فترة لاحقة ، فإن السياسة والصراع على السلطة انتقلا إلى خارج الكوفة ، في القرن الثالث / الثامن ، أي منذ إنشاء مدينة بغداد ، وبدء انفتاح الإمبراطورية الإسلامية. فتحولت الكوفة ، خلافا لذلك ، إلى مدينة تعجّ بنشاط ثقافي بلغ ذروته بين عامي ١٥٠ و ٢٥٠ ه٧٦٠ / و ٨٦٠ م. فكان من البديهي أن تكتسب الكوفة ثلاثة وجوه : فكانت كوفة سياسية (حتى العام ١٥٠ ه) وكوفة ثقافية (بين العامين ١٥٠ و ٢٥٠ ه)وكوفة إيديولوجية محض (بين عامي ٢٥٠ و ٣٥٠ ه) سرعان ما غدت المركز الأساس للعقيدة الشيعية.
الأحداث الأساسية التي طبعت العمل السياسي في الكوفة ، هي : الإسهام في الثورة ضد عثمان (٣٤ ـ ٣٥ ه٦٥٤ / ـ ٦٥٥ م) ، الوقوف إلى جانب علي في المعركتين الكبيرتين المصيريتين : وقعة الجمل (٣٦ ه٦٥٦ / م) ووقعة صفين (٣٧ ه٦٥٧ / م) ، نشوء حركة الخوارج في الكوفة ، بداية التشيع السياسي مع ولادة حركة التمرد التي قادها حجر بن عدي الكندي ، والتي انتهت بالقمع والدم (٥١ ه٦٧١ / م). منذ ذلك الحين تتابعت الثورات الشيعية ، وكان مصيرها جميعا القمع والدم : حركة مسلم بن عقيل ومأساة كربلاء (٦٠ ـ ٦١ ه٦٧٩ / ـ ٦٨٠ م) ، مسيرة التوابين (٦٥ ه٦٨٤ / م) ، ثورة المختار الثقفي (٦٦ ـ ٦٧ ه٦٨٥ / ـ ٦٨٦ م) ، دعوة المغيرة وبيان ، ثورة زيد بن علي (١٢٢ ه٧٣٩ / م) ، ثورة عبد اللّه ابن معاوية (١٢٧ ه٧٤٤ / م). وفوق ذلك ، فإن الكوفة كانت الدماغ المفكر للدعوة العباسية ، وفي المسجد الكبير تمّ تسلم الخليفة العباسي الأول مقاليد الخلافة (١٣٢ ه٧٤٩ / م). بيد أن الكوفة كانت كذلك هدفا لهجمات الخوارج المتلاحقة ، ولا سيما منها تلك التي وقعت العام ٧٦ ه٦٩٥ / م بقيادة شبيب ، ثم تلك التي كانت أشد عنفا وأكثر فتكا وقادها الضحاك (١٢٧ ـ ١٢٨ ه٧٤٤ / ـ ٧٤٥ م). كما أنها شاركت ، إلى جانب البصرة (٨٢ ـ ٨٣ ه٧٠١ / ـ ٧٠٢ م) ، في ثورة ابن الأشعث الكبرى التي كادت تطيح بالخلافة الأموية ، وشاركت فيها الأمصار جميعا ، من دون الأخذ بأية إيديولوجيا. كثرة الثورات وحركات التمرد والعصيان ، وتزايد شق عصا الطاعة والاضطرابات السياسية هذه ، طبعت الكوفة