طبقاً فيه قرص من شعير ، وقدح من لبن ، وحفنة من جريش الملح ، فيقول لها :
تريدين أن يطول وقوف أبيك بين يدي الله ، تقدمين له أدامين في طبق واحد؟
ثم يختار الخبز والملح ويعزف عن اللبن.
إنها الشدة في ذات الله ، والتسليم للقناعة ورضا الله ، وحمل النفس على الزهد ، وهي في الوقت نفسه المثل العليا التي قلّ أن نجدها عند أحد ، وقد لا نجدها ، لأننا لا نقدر عليها ، أليس هو القائل الصادق :
« إلا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ».
وهذا عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة ، يدعى إلى وليمة فيجيب ، ويسمع علي بذلك فيكتب إليه :
« أما بعد فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة ، قد دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما كنت أظنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوَّ ، وغنيهم مدعوٌ ». وتستطلع إلى هذه الدعوة فتجدها « كراعاً ورأساً » ليس غير ، تجر نقمة الإمام وتقريعه ، وتستدعي غضبه وتأنيبه ، لأن هؤلاء القوم يجفون الفقراء ويدعون الأغنياء ، ثم لا يقف الإمام عند هذا وحده ، حتى يبين لواليه الحكم الشرعي : « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما إشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه ».