فما استمع إليه أحد ، وركب راحلته وانطلق الى مكة ، يتجرع مرارة الإخفاق ، ويجر أبراد الخيبة ، وأنذر قريشا بالحرب ، وكانت متخاذلة فلم تحر جوابا ، ومترددة فلم تحرك ساكنا. وتجهز رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بسرعة مذهلة ، ودعا قائلا :
« اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في دارها » وبث العيون ، وأخذ بالطرق ، وأوقف الرصد ، يستطلع القادم ، ويستكتم المسافر ، فمن شك به ردّ ، وأخبر جماعة من صحبه وفي طليعتهم علي بأنه يريد مكة ، ولكن الأكثرية لا تعلم جهته ، وكانت فلتة مزرية ، وخيانة مريرة من حاطب بن أبي بلتعة ، حينما سرّب الخبر الى قريش بيد سوداء جعل لها جعلا ، وأخبر الوحي النبي بالأمر ، فأرسل عليا والزبير ، فسبقا الى المرأة ، وأدركها الزبير فاستظقها فأنكرت ، وقال لأمير المؤمنين : ما أرى معها كتابا ، نذهب الى رسول الله ونخبره ، فقال علي عليهالسلام : يخبرني رسول الله أن معها كتابا ، ويأمرني بأخذه منها ، وتقول أنت أنه لا كتاب معها ؛ ثم اخترط سيفه ، وأقبل عليها ، وقال : والله إن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك ثم لأضربن عنقك. فلما رأت الجد من عليّ عليهالسلام أخرجت الكتاب من عقيصتها ، فأخذه عليّ وانطلق به الى رسول الله ، وأنذر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ابن أبي بلتعة بعد أن إعترف بذنبه ، وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف كما تقول الرواية ، فأتّبه وحذرّه ونزل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ ) (١).
وبمثل هذه السرّية خرج النبي من المدينة في عشرة آلاف ، وأعطى الراية العظمى لعلي عليهالسلام وقسم الألوية على زعماء القوم من
__________________
(١) سورة الممتحنة ، الآية : ١.