عنه ، وأمّا السيرة العقلائية فمردّها ـ كما عرفنا ـ الى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي ، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثّرات الاخرى التي تتكيّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم ، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة ؛ لأنّ الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.
وعلى هذا الأساس يتّضح أنّ طريقة الاستدلال التي كنّا نستخدمها في سيرة المتشرِّعة لا يمكننا استعمالها في السيرة العقلائية ، فقد كنّا في سيرة المتشرِّعة نكتشف عن طريق السيرة البيان الشرعي الذي أدّى الى قيامها بوصفها نتيجةً للبيان الشرعي وناشئةً عنه ، إذ لم يكن من المحتمل أن يتّفق المتشرّعة جميعاً على أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ دون أن يكون هناك بيان شرعي يدلّ على ذلك.
وأمّا الميل العامّ الذي تمثّله السيرة العقلائية فهو ليس ناشئاً عن البيان الشرعي ، ولا ناتجاً عن دوافع دينيةٍ ليتاح لنا أن نكتشف عن طريقه وجود بيانٍ شرعيٍّ أدّى الى تكوّنه وقيامه.
ولأجل هذا يجب أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجاً آخر يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة المتشرِّعة.
ويمكننا تلخيص هذا المنهج في ما يلي :
إنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك ، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه مع التشريع الإسلامي.
ومثال ذلك : سكوت الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم وعدم ردعها عنه ، فإنّ ذلك يدلّ على أنّها تقرّ هذه الطريقة في فهم