(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) (٦٦)
____________________________________
* من التشويق إلى المؤخر فأحيا به الأرض بما أنبت به فيها من أنواع النباتات (بَعْدَ مَوْتِها) أى بعد يبسها وما* يفيده الفاء من التعقيب العادى لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فى إنزال الماء من* السماء وإحياء الأرض الميتة به (لَآيَةً) وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) هذا التذكير ونظائره سماع تفكر وتدبر فكأن من ليس كذلك أصم (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) عظيمة وأى عبرة تحار فى دركها العقول وتهيم فى فهمها ألباب الفحول (نُسْقِيكُمْ) استئناف* لبيان ما أبهم أولا من العبرة (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أى بطون الأنعام والتذكير هنا لمراعاة جانب اللفظ فإنه اسم جمع ولذلك عده سيبويه فى المفردات المبنية على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه فى سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى ومن جعله جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن ليس لجميعها أوله على* المعنى فإن المراد به الجنس وقرىء بفتح النون ههنا وفى سورة المؤمنين (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً) الفرث فضالة ما يبقى من العلف فى الكرش المنهضمة بعض الانهضام وكثيف ما يبقى فى المعاء وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف فى كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ولعل المراد به أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذى يغذو البدن لأن عدم تكونهما فى الكرش مما لا ريب فيه بل الكبد تجذب صفاوة الطعام المنهضم فى الكرش ويبقى ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها فيحدث أخلاطا أربعة معها مائية فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين الصفراء والسوداء وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ثم توزع الباقى على الأعضاء بحسبها فتجرى على كل حقه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها فيندفع الزائد أولا لأجل الجنين إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع فيبيض لمجاورته لحومها العذوية البيض ويلذ طعمه فيصير لبنا ومن تدبر فى بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وأعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه وقدرته وحكمته وتناهى رأفته ورحمته فمن الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما فى بطونه لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التى فى الفرث حسبما فصل والثانية ابتدائية كقولك سقيت من الحوض لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء وهى متعلقة بنسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكينه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذى نحن فيه فإن بين وصفى المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر