(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥)
____________________________________
ما ذكر دخولا أوليا (وَلا يُغْنِي) أى لا يقدر على أن يغنى (عَنْكَ شَيْئاً) فى جلب نفع أو دفع ضر ولقد* سلك عليهالسلام فى دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن محجة الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التى هى الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيى المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشىء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر مطيقا بإيصال الخير والشر لكن كان ممكنا لاستنكف العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله فى الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهى مستقلا بالنظر السوى مصدرا لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان فى أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه فى صورة رفيق له أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أى مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منجيا عن الضلال المؤدى إلى مهاوى الردى والمعاطب ثم ثبطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه فى الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) فإن عبادتك للأصنام عبادة له إذ هو الذى يسولها لك ويغريك عليها وقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) تعليل لموجب النهى وتأكيد له ببيان أنه مستعص على ربك الذى أنعم عليك بفنون النعم ولا ريب فى أن المطيع للعاصى عاص وكل من هو عاص حقيق بأن يسترد منه النعم وينتقم منه والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التقرير والاقتصاد على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليهالسلام وذريته فتذكيره داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه وقوله (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤه بما ابتلى به معبوده من العذاب الفظيع وكلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما فى قوله عزوجل (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أى قرينا له فى اللعن المخلد وذكر الخوف للمجاملة*