(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)
____________________________________
* من عند الله تعالى (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) منقادين لحكمه ومذعنين لأمره وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونه من عند الله تعالى وتلك الودادة يوم القيامة أو عند موتهم أو عند معاينة حالهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار روى أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه أنه قال النبى صلىاللهعليهوسلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار فى النار ومعهم من شاء تعالى من أهل القبلة قال لهم الكفار ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمر بكل من كان من أهل القبلة فى النار فيخرجون منها فحينئذ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) وروى مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لا يزال الرب يرحم ويشفع إليه حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فعند ذلك يتمنون الإسلام والحق أن ذلك محمول على شدة ودادتهم وأما نفس الودادة فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هى مقررة مستمرة فى كل آن يمر عليهم وأن المراد بيان ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جىء بصيغة التقليل جريا على سنن العرب فيما يقصدون به الإفراط فيما يعكسون عنه تقول لبعض قواد العساكركم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندى أو لا تعدم عندى فارسا وعنده مقانب جمة من الكتائب وقصده فى ذلك التمارى فى تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهار براءته من التزيد وإبراز أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثير ما عنده فضلا عن تكثير القليل وهذه طريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائة ريب فيصار إليه هضما للحق فدل النظم الكريم على ودادة الكافرين للإسلام فى كل آن من آنات اليوم الآخر وأن ذلك من الظهور بحبث لا يشتبه على أحد ولو جىء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادة مع كثرتها فى نفسها مما يستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء وهذا هو الموافق لمقام بيان حقارة شأن الكفار وعدم الاعتداد بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) الآية أو ذهابا إلى الإشعار بأن من شأن العاقل إذا عن له أمر يكون مظنون الحمد أو قليلا ما يكون كذلك أن لا يفارقه ولا يقارف ضده فكيف إذا كان متيقن الحمد كما فى قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإن المقصود ليس بيان كون الندم مرجو الوجود بلا تيقن به أو قليل الوقوع بل التنبيه على أن العاقل لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقل وقوعه فيه فكيف بقطعى الوقوع وأنه يكفى قليل الندم فى كونه حاجزا عن ذلك الفعل فكيف كثيره والمقصود من سلوك هذه الطريقة إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره فالمعنى لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودونه كل آن وهذا أوفق بمقام استنزالهم عما هم عليه من الكفر وهذان طريقان متمايزان ذاتا ومقاما فمن ظنهما واحدا فقد نأى عن توفية المقام حقه (ذَرْهُمْ) دعهم عن النهى عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيل إلى إراعوائهم عن ذلك وبالغ فى تخليتهم وشأنهم بل مرهم بتعاطى ما يتعاطونه* (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم وفى تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل