(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)
____________________________________
أفراد كمل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللثام وإنما الذى يدخل فى حقهم تحت الحكمة فى الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا* بالمرة (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) جزاء الشرط مقدر وفيه إيذان بإنتاج مقدماتهم لنقيض مطلوبهم كما فى قوله تعالى (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) قال صاحب النظم لفظة إذن مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين تقول أتيتك إذ جئتنى أى حين جئتنى ثم ضم إليه أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فمجىء لفظة أن دليل على إضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا إذ أن كان ما طلبوه منظرين والمعنى لو نزلناهم ما كانوا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل فى قوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) الخ وحال حائل الحكمة بينهم وبين استئصالهم لتعلق العلم والإرادة بازديادهم عذابا وبإيمان بعض ذراريهم وأما نظم إيمان بعضهم فى سمط الحكمة فيأباه مقام بيان تماديهم فى الكفر والفساد ولجاجهم فى المكابرة والعناد هذا هو الذى يستدعيه إعجاز التنزيل الجليل وأما ما قيل فى تعليل عدم موافقة التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدقين عن اضطرار أو أنه لا حكمة فى أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا أو أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا فمع إخلال كل من ذلك بقطعية الباقى لا يلزم من فرض وقوع شىء من ذلك تعجيل العذاب الذى يفيده قوله تعالى (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) هذا على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة أما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بالحق الذى تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة حتما بحيث لا محيد عنه ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيل ملتبسا بمقتضى الحكمة الموجبة لتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لا رفقا بهم بل تشديدا عليهم كما مر من قبل وحيث كان فى نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقته الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة الموجبة لتأخير عذابهم لتشديد عقابهم وقيل المراد بالحق الوحى وقيل العذاب فتدبر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم التنزيل واستهزائهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك وتسلية له أى نحن بعظم شأننا وعلو جنابنا نزلنا ذلك الذكر الذى أنكروه وأنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعموا منزله حيث بنوا الفعل* للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من كل مالا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولا أوليا فيكون وعيدا للمستهزئين وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام فالوجه الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلة فى حقيته ويجوز أن يراد حفظه بالإعجاز دليلا على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند