أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي ، سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت (١) ، وهذا غريب ، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) فالفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شيء بحسبه ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] فالمشهور الظاهر ، والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن. ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها ، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره ، أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمل ما هي فيه ، فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت : وما هو؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حب ، وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت : نعم ، وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك : هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ، فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر ، وهل يكون ولد من غير أب؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم ، فصدقها وسلم لها حالها ، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكانا قصيا ، أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون ، حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا ، وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا : إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه ، وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم ، قلت : وقد تقدم في أحاديث الإسراء من
__________________
(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٢٥.