فلما كان من قابل ، حملت بموسى عليهالسلام فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون ـ يا ابن جبير ـ ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها : ما فعلت يا بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقي جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن : إن في هذا مالا ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط ، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك ، فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك» ، فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا : أحي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به ، فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات : أنا أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها.
فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها فأتت بها وبه ، فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئا حبه قط. قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك