وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨٣)
يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل استمروا على غيهم وضلالهم (فَمَا اسْتَكانُوا) ، أي ما خشعوا (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ما دعوا ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام : ٤٣] الآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن حمزة المروزي ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبي عن يزيد ـ يعني النحوي ـ عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ـ يعني الوبر والدم ـ فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا) الآية ، وكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبيه به ، وأصله في الصحيحين أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم دعا على قريش حين استعصوا ، فقال : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» (١).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان ، حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء : ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله؟ فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله ، والله يقول : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة ، فقيل له : ما هذا الصوم يا أبا عبد الله؟ قال : أحدث لنا فأحدثنا ، يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة.
وقوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة ، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا (٢) من كل خير وأيسوا من كل راحة ، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم ، ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وهي العقول والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
وقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، كقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه (٣) الخليقة وذرئه (٤) لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم
__________________
(١) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٨.
(٢) أبلسوا : أي يئسوا.
(٣) البرء : الخلق.
(٤) الذرء : الخلق ، وذرأ الشيء : كثّره ومنه الذّريّة.