فكيف لا تعتمد قريش سياسة وتدبير من أوائل أيام البعثة كي تكون هي الظافرة بملك محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا سيّما وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد كان ينبئ ويخبر بما سيكون عليه مستقبل دين الإسلام وأنّه سيسود البلدان؟!
فقد روى الطبري وغيره : «أنّ ناسا من قريش اجتمعوا ، فيهم أبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلّمه فيه فلينصفنا منه ، فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا ...».
إلى أن قال : «قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أي عمّ! أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟!
قال : وإلى ما تدعوهم؟ قال : ادعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» (١).
والمتتبّع في كتب التاريخ والسير يجد الكثير من هذه النماذج التي تشير إلى تحسّب القبائل وطمعها في الدعوة الجديدة ومستقبلها ، والسلطة الجديدة الآخذة في الانتشار. ونظيره ما كانت تتنبّأ به الكهنة والمنجّمين ، وكانت قريش تعتمد عليهم كثيرا ، وقد ذكر إخبارهم بمستقبل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في كتب السير والتاريخ ، بل كانت اليهود والنصارى كثيرا ما تتوعّد المشركين بالظفر عليهم عند بعثة خاتم النبيّين من مكّة ، ولذلك هاجروا من بلاد الشام واستوطنوا الحجاز انتظارا لبعثة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ..
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) ، بل قد ذكرت كتب السير والتاريخ أنّ اليهود ـ مع ذلك ـ كانت تترصّد اغتيال أجداد وآباء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فمن كلّ ذلك يتبيّن أنّ خبر المستقبل كان متفشّيا منتشرا في أرجاء مكّة
__________________
(١). تاريخ الطبري ٢ / ٦٥.
(٢). البقرة / ٨٩.