فلمّا فرغ من قضيّة الكتاب قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لأصحابه : قوموا فانحروا ثمّ احلقوا. فوالله ما قام رجل منهم حتّى قال ذلك ثلاث مرّات ، فلمّا لم يقم منهم أحد قام فدخل على أُمّ سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس (١).
أقول :
هذه المخالفة أُخت مثيلاتها ، وإنّ ما يدركه ويفهمه من قواعد الدين حجّيته فوق حجّية نبيّ الله تعالى ، وإنّه متردّد في أنّ النبيّ على الحقّ أو لا ، وليس هذا موقفه فقط ، بل هذا ما يرسمه أهل سُنّة جماعة الخلافة والسلطان لأنفسهم ، ولا يزالون يصحّحون تلك المواقف ، بل جعلوه منهجاً وقاعدة تحت ذريعة أنّ أحكام النبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) اجتهادات قد لا تصيب الواقع والحقيقة.
ولم يكتف عمر بذلك ، بل عبّأ عصياناً عامّاً لدى المسلمين على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تحت شعار : (لا نقبل الدنية في ديننا) ، وإنّ هذا الشعار هو من المحكمات التي يحكمها على نبيّ الله تعالى.
روى السيوطي ـ أيضاً ـ في سورة الفتح ، قال : ((وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن مسعود ، قال : أقبلنا من الحديبيّة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه ، فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنّه أنزل عليه : (إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٢) ، قال : الحديبيّة)).
وقال : ((وأخرج البيهقي عن عروة ، قال : أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبيّة راجعاً ، فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : والله ما هذا بفتح! لقد صُددنا عن البيت ، وصُدّ هدْينا.
وعكف رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بالحديبيّة ، وردّ رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) قول رجال من أصحابه : (إنّ هذا ليس بفتح) ، فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح ; لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ،
__________________
(١) الدرّ االمنثور ٧٦/٦ ـ ٧٧.
(٢) سورة الفتح ١ : ٤٨.