اما الأول ، فلأنه لا يتصور في أفلاكه لامتناع الخرق والالتيام عليها ، وحصول العنصريات فيها ، وهبوط آدم منها ، ولا في عنصرياته لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، ولأنه لا معنى للتناسخ (١) إلا عود الأرواح إلى الأبدان ، مع بقائها في عالم العناصر.
وأما الثاني فلأنه لا بد في ذلك العالم أيضا من جهات مختلفة ، إنما تتحد بالمحيط والمركز فيكون كريا فلا يلاقي هذا العالم إلا بنقطة ، فيلزم بين العالمين خلاء (٢) وقد تبين استحالته ، ولأنه يشتمل ـ لا محالة ـ على عناصر لها فيه أحياز طبيعية ، فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ، ويلزم سكون كل عنصر في حيزه الذي في ذلك العالم ، لكونه طبيعيا له ، وحركته عنه إلى حيّزه الذي في هذا العالم لكونه خارجا عنه. واجتماع الحركة والسكون محال. وإن لم يلزم الحركة والسكون ، فلا أقل من لزوم الميل إليه وعنه ، ولأنه لا محالة يكون في جهة من محدد هذا العالم ، والمحدد في جهة منه ، فيلزم تحدد الجهة قبله لا به ، مع لزوم الترجح بلا مرجح ، لاستواء الجهات.
والجواب ـ أن مبنى ذلك على أصول فلسفية ، غير مسلمة عندنا ، كاستحالة الخلاء ، وامتناع الخرق والالتيام ، ونفي القادر المختار الذي بقدرته وإرادته تحديد الجهات ، وترجيح المتساويات إلى غير ذلك من المقدمات ، على أن ما ادعوا تحدده بالمحيط والمركز إنما هو جهة العلو والسفل لا غير ، ودليلهم على امتناع الخرق إنما قام في المحدد لا غير. وكون العالمين في محيط بهما بمنزلة تدويرين في ثخن فلك ، لا يستلزم الخلاء ، ولا يمتنع كون عناصر العالمين مختلفة الطبائع ، ولا كون تحيزهما في أحد العالمين غير طبيعي. وليس التناسخ عود الأرواح إلى
__________________
(١) في (ب) النسخ بدلا من (التناسخ).
(٢) الخلاء : هو البعد المفطور عند افلاطون ، والفضاء الموهوم عند المتكلمين أي الفضاء الذي يثبته الوهم ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر كالقضاء المشغول بالماء أو الهواء في داخل الكوز فهذا الفراغ الموهوم هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم ، وان يكون ظرفا له عندهم وبهذا الاعتبار يجعلونه حيزا وباعتبار فراغه من شغل الجسم إياه يجعلونه خلاء ، فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد أن لا يشغله شاغل من الأجسام فيكون لا شيئا محضا ، والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء والمتكلمون إلى إمكانه.