فهي أبدية عندهم ، لا تفنى بخراب البدن ، بل تبقى ملتذة بكمالاتها ، مبتهجة بإدراكاتها ، وذلك سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف المراتب وتفاوت الأحوال ، أو متألمة بفقد الكمالات ، وفساد الاعتقادات ، وذلك شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من اختلاف التفاصيل ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن ، وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بمفارقة البدن.
فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب ، وما يتعلق بذلك من السمعيات فهي مجازات وعبارات عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة ، واختلاف أحوالها في اللذات والآلام ، والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى درجات السعادة. فإن الشقاوة السرمدية إنما هي الجهل المركب الراسخ ، والشرارة المضادة للملكة الفاضلة ، لا الجهل البسيط ، والأخلاق الخالية عن غايتي الفضل والشرارة ، فإن شقاوتها متقطعة بل ربما لا تقتضي الشقاوة أصلا.
وتفصيل ذلك أن فوات كمالات النفس يكون إما لأمر عدمي كنقصان غريزة العقل ، أو وجود كوجود الأمور المضادة للكمالات ، وهي إما راسخة أو غير راسخة. وكل واحد من الأقسام الثلاثة إما أن يكون بحسب القوة النظرية أو العملية ، يصير ستة ، فالذي بحسب نقصان الغريزة في القوتين معا فهو غير مجبور بعد الموت ، ولا عذاب بسببه أصلا ، والذي بسبب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب الذي صار صورة للنفس ، غير مفارقة عنها ، فغير مجبور أيضا ، لكن عذابه دائم. وأما الثلاثة الباقية ، أعني النظرية ، غير الراسخة ، كاعتقادات العوام ، والمقلدة ، والعملية الراسخة وغير الراسخة ، كالاختلاف والملكات الردية المستحكمة وغير المستحكمة فيزول بعد الموت لعدم رسوخها ، أو لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة فيزول بزوالها ، لكنها تختلف في شدة الرداءة
__________________
ـ في المنطق هو القياس الذي نستنبط به نتيجة يقينية من مقدمات ولأرسطو في العلم الطبيعي مؤلفات منها السماع الطبيعي ، والسماء ، والكون ، والفساد ، والنفس وله فصول في موضوعات مختلفة يطلق عليها (ما وراء الطبيعة).