العقلي أيضا لأنه مخالف لحكمة التفرقة بين من أحسن غاية الإحسان ومن اساء غاية الإساءة وضعفه ظاهر. واختلفوا في العفو عن الكبائر بدون التوبة. فجوزه الأصحاب ، بل أثبتوه خلافا للمعتزلة حيث منعوه سمعا وإن جاز عقلا عند الأكثرين منهم ، حتى صرح بعض المتأخرين منهم بأن القول بعدم حسن العفو عن المستحق للعقاب عقلا قول أبي القاسم الكعبي. لنا على الجواز أن العقاب حقه فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعا للعبد من غير ضرر لأحد ، وعلى الوقوع الآيات والأحاديث الناطقة بالعفو والغفران :
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (١) (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٢) (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣) (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٥)
وفي الأحاديث كثرة. ومعنى العفو والغفران ترك عقوبة المجرم والستر عليه بعدم المؤاخذة لا يقال : يجوز حمل النصوص على العفو عن الصغائر ، أو عن الكبائر بعد التوبة ، أو على تأخير العقوبات المستحقة ، أو على عدم شرع الحدود في عامة المعاصي ، أو على ترك وضع الآصار عليهم من التكاليف المهلكة كما على الأمم السالفة ، أو على ترك ما فعل ببعض الأمم من المسخ ، وكتبه الآثام على الجباه ، ونحو ذلك بما يفضحهم في الدنيا ، لأنا نقول : هذا مع كونه عدولا عن الظاهر بلا دليل وتقييد للإطلاق بلا قرينة ، وتخصيصا للعام بلا مخصص ، ومخالفة لأقاويل من يعتد به من المفسرين بلا ضرورة وتفريقا بين الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا المعنى بلا فارق مما لا يكاد يصح في بعض الآيات كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) .. (٦) الآية.
فإن المغفرة بالتوبة تعم الشرك وما دونه. فلا تصح التفرقة بإثباتها لما دونه.
__________________
(١) سورة الشورى آية رقم ٢٥.
(٢) سورة المائدة آية رقم ١٥.
(٣) سورة الزمر آية رقم ٥٣.
(٤) سورة النساء آية رقم ٤٨ ، ١١٦.
(٥) سورة الرعد آية رقم ٦.
(٦) سورة النساء آية رقم ٤٨ ، ١١٦.