مجرد المعرفة لحصولها لبعض الكفار على ما تلونا من الآيات ، فكاد يفضي ذلك إلى نسبة نفسه مدة من الزمان ، وكثير من السلف إلى الجهل بحقيقة الإيمان وإلى الإصرار على أنه لا بد من أمر وراء التصديق والإقرار. ولأنه اتخذ لفظ التصديق مهجورا مع كونه في بين الأنام مشهورا وعلى وجه الأيام مذكورا. وبنى الأمر كله على لفظ التسليم بحيث اعتقد كثير من العوام بل الخواص أنهما معنيان مختلفان قد يجتمعان وقد يفترقان ، لاحظ لأهل التصديق دون التسليم من الإيمان ، وربما يرى الواحد من غلاة الفريقين وجهلة القبيلين يشمئز من أحد اللفظين ، ولا يكتفي بأن يكون التصديق والتسليم مذهبين ، ولأنه اعتبر في التسليم تحقيقات وتدقيقات لم تخطر ببال الكثير من المسلمين ، بل لا يفهمها إلا الأذكياء من أئمة الدين ، فاتخذها جهلة العوام ذريعة إلى تكفير الناس ، وتجهيل الخواص ، حتى استفتوه في شأن بعض رؤساء الدين وعلماء المسلمين ، والمهرة من المحققين فأفتى بكفره بناء على أنه أنكر بعض ما أورده هو في تحقيق الإيمان ، مع أنك إذا تحققت فبعض منازعاتهما لفظي وبعضها اجتهادي ، إلى غير ذلك من أمور قصد بها صلاح الدين ، وقمع الجاحدين ، لكنها أدت إلى ما أدت وأفضت إلى ما أفضت لما أنه ترك الأرفق إلى الأوفق ، والأليق إلى الأوثق ، ولا عليه ، فإنه قد بذل الجهد في إحياء مراسم الدين وإعلاء لواء المسلمين ، جزاه الله خير الجزاء عن أهل اليقين وأعلى درجته يوم اللقاء في عليين.
قال : المقام الثالث ـ
(إن الأعمال غير داخلة في حقيقة الإيمان لما ثبت أنه اسم للتصديق ، ولا نقل ، وأنه لا ينفع عند معاينة العذاب ، ولا عمل ، وأن المؤمن قد يؤمر وينهى مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) (٢)
وللنصوص الدالة على أنهما أمران متغايران مثل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
__________________
(١) سورة البقرة آية رقم ١٨٣.
(٢) سورة الحجرات آية رقم ١ وتكملة الآية (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..