فدل على انفكاك التصديق عن العلم ، والعلم عن التصديق. ولهذا لم يجعل الإيمان معرفة على ما ذهب إليه جهم بن صفوان.
الخامس ـ أن ما ذكر من اعتبار الاختيار في نفس التصديق اللغوي ، وكون الحاصل بلا كسب واختيار ، ليس بإيمان يدل على أن تصديق الملائكة بما ألقي عليهم ، والأنبياء بما أوحي إليهم ، والمصدقين بما سمعوا من النبي (عليهالسلام) كله مكتسب بالاختيار. وأن من حصل له هذا المعنى بلا كسب كمن شاهد المعجزة فوقع في قلبه صدق النبي (عليهالسلام) فهو مكلف بتحصيل ذلك اختيارا ، بل صرح هذا القائل بأن العلم بالنبوة الحاصل من المعجزات حدسي ربما يقع في القلب من غير اختيار ولا ينضم إليه التصديق الاختياري المأمور به ، وكل هذا موضع تأمل.
فإن قيل : لا شك أن المقصود بالتصديق والتسليم واحد ، والتصريح بذلك من أكابر الصحابة وعلماء الأمة وارد. وفي قوله تعالى :
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١).
عليه شاهد ، وإن أمكنت مناقشته. وبقوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً)(٢).
مجادلة. ففي اتحاد المفهوم لا غير. فما بال أقوام شددوا النكير ، أو أكثروا المدافعة على من قال بذلك من المتأخرين ونسبوه إلى اختراع مذهب في الإسلام ، وزيادة ركن في الإيمان.
قلنا : لأنه كان يزعم أولا أن التسليم أمر زائد على التصديق الذي اعتبره العلماء لم ينكشف على من قبله من الأذكياء ، واعترف بأنه إنما اطلع عليه بعد حين من الدهر وصدر من العمر. مع أن السلف قد صرحوا بأن المراد به ما يعبر عنه في الفارسية بگرويدن وباور داشتن وبذيرفتن وراست كوي داشتن. وأنه لا يكفي
__________________
(١) سورة النساء آية رقم ١٦٥.
(٢) سورة الأحزاب آية رقم ٢٢.