نفس شريفة شديدة الاتصال بعالم العقل ، قليلة الالتفات إلى عالم الحس ، ومتخيلة شديدة جدا قوية التلقي من عالم الغيب ، قليلة الانغماس في جانب الظاهر ، لا يعصيها المصورة ولا يشغلها المحسوسات عن أفعالها الخاصة ، ويحصل لذلك الإنسان في اليقظة أن يتصل بعالم الغيب ، ويتمثل لقوته المتخيلة العقول المجردة والنفوس السماوية أشباحا مصورة سيما العقل الفعال (١) الذي له زيادة اختصاص بعالم العناصر ، فتخاطبه وتحدث في سمعه كلاما مسموعا يحفظ ويتلى ، ويكون ذلك من قبل الله وملائكته ، لا من الإنسان ، وهذا معنى الوحي ونزول الملك والكتاب. وقد يكون ذلك على غاية الكمال ، فيعبر عنها بمشاهدة وجه الله الكريم وسماع كلامه من غير واسطة.
وأما تقريرهم في كون النبي مبعوثا من قبل الباري تعالى لحفظ النظام وصلاح العباد في المعاش والمعاد ، مع أنهم لا يثبتون له الفعل بالاختيار والعلم بالجزئيات ، ويقطعون بأنه ـ بل جميع المبادي العالية ـ لا يفعل لغرض في الأمور السافلة ، فهو أن العناية الإلهية بمخلوقاته ، أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه الأليق في الأوقات المترتبة التي يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات يقتضي إفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشرع والشارع ووجوب ما به يكون النظام على وجه الصواب ، فيجب ذلك عنه وعن إحاطته بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل ليكون الموجود على وفق المعلوم وعلى أحسن النظام ، وإن لم يكن هناك انبعاث قصد وطلب منه تعالى ، وهذا ما قال في الشفاء إن العناية الإلهية تقتضي المصالح التي لها منفعة ما في البقاء ، كإنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقعير الأخمص من القدمين ، فكيف لا تقتضي المنفعة التي هي في محل الضرورة للبقاء ، ولتمهيد نظام الخير وأساس المنافع كلها ، وكيف لا يجب وقد وجدها هو مبني عليها ومتعلق بها ، وكيف يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلمون ذلك ولا يعلمون هذا.
__________________
(١) هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا يشاهدها بالفعل.