الدواعي وعدم الصارف ، والعلم بجميع ذلك قطعي كسائر العاديات ، لا يقدح فيه احتمال انهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها ، أو عارضوا ولم ينقل إلينا لمانع ، كعدم المبالاة وقلة الالتفات ، والاشتغال بالمهمات.
وأما المقام الثاني فالجمهور على أن إعجاز القرآن لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب (١) بسليقتهم ، وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان ، وإحاطتهم بأساليب الكلام. وهذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية ، كما سنذكره ، وعلى دقائق العلوم الإلهية ، وأحوال المبدأ والمعاد ، ومكارم الأخلاق ، والإرشاد إلى فنون الحكمة العلمية والعملية ، والمصالح الدينية والدنيوية على ما يظهر للمتدبرين ويتجلى على المتفكرين ، وذهب النظام (٢) وكثير من المعتزلة والمرتضى من الشيعة إلى أن إعجازه بالصرفة ، وهي أن الله صرف همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليها ، وذلك إما بسلب قدرهم ، أو بسلب دواعيهم ، أو بسلب العلوم التي لا بد منها في الإتيان بمثل القرآن. بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم ، أو بمعنى أنها كانت حاصلة فأزالها الله. وهذا هو المختار عند المرتضى ، وتحقيقه أنه كان عندهم العلم بنظم القرآن ، والعلم بأنه كيف يؤلف كلام يساويه أو يدانيه. والمعتاد أن من كان عنده هذان العلمان يتمكن من الإتيان بالمثل ، إلا أنهم كلما حاولوا ذلك ، أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم. وفيه نظر.
واحتجوا أولا بأنا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلم بمثل
__________________
(١) في (ب) بزيادة لفظ (جميعهم)
(٢) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو اسحاق النظام من أئمة المعتزلة قال الجاحظ : الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن صح ذلك فأبو إسحاق من أولئك : تبحر في علوم الفلسفة ، واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين ، وانفرد بآراء خاصة تابعته فرقته من المعتزلة وسميت باسمه ، وبين هذه الفرق وغيرها مناقشات طويلة ، وقد ألفت كتب خاصة للرد على النظام وفيها تكفير له وتضليل أما شهرته بالنظام فأشياعه يقولون إنها من إجادته نظم الكلام ، وخصومه يقولون إنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ، وفي كتاب الفرق بين الفرق أن النظام عاشر في زمان شبابه قوما من الثنوية متأثر بهم توفي عام ٢٣١ ه