أي لا يترفع عيسى في العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة ، كقولك : لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان. ولو عكست أحلت بشهادة علماء البيان ، والبصراء بأساليب الكلام ، وعليه قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) (١).
أي مع أنهم أقرب مودة لأصل الإسلام ، ولهذا خص الملائكة بالمقربين منهم لكونهم أفضل.
والجواب أن الكلام سبق لرد مقالة النصارى وغيرهم في المسيح وادعائهم فيه مع النبوة البنوة ، بل الألوهية ، والترفع عن العبودية لكونه روح الله ، ولد بلا أب ، ولكونه يبرئ الأكمه والأبرص ، والمعنى لا يترفع عيسى عن العبودية (٢) ولا من هو فوقه في هذا المعنى ، وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم ويقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى (عليهالسلام) ، ولا دلالة على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب وسائر الكمالات ، ألا يرى أن فيما ذكرت من المثال لم يقصد الزيادة والرفعة في الفضل والشرف والكمال ، بل فيما هو مظنة الاستنكاف والرضا. كالغلبة والاستكبار ، والاستعلاء في السلطان ، وقرب المودة في النصارى.
ومنها اطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء والرسل ، ولا يعقل له جهة سوى الأفضلية.
والجواب أنه يجوز أن يكون بجهة تقدمهم في الوجود ، أو في قوة الإيمان بهم ، والاهتمام به لأنهم أخفى ، فالإيمان بهم أقوى ، وبالتحريض عليه أحرى.
وأما العقليات فمنها أن الملائكة (٣) روحانيات مجردة في ذواتها ، متعلقة بالهياكل العلوية ، مبرأة عن ظلمة المادة ، وعن الشهوة والغضب اللذين هما مبدأ الشرور والقبائح ، متصفة بالكمالات العلمية والعملية بالعقل من غير شوائب
__________________
(١) سورة البقرة آية رقم ١٢٠.
(٢) هي الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود والصبر على المفقود.
(٣) الملائكة : أجسام نورانية لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة وقال تعالى في صفتهم : (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).