فإن قيل : هذا الجواز مناف للإعجاز ، إذ من شرطه عدم تمكن الغير من الإتيان بالمثل ، بل مفض إلى تكذيب النبي ، حيث يدعي عند التحدي أنه لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به.
قلنا : المنافي هو الإتيان بالمثل على سبيل المعارضة. ودعوى النبي أنه لا يأتي بمثل ما أتيت به أحد من المتحدين ، لا أنه لا يظهر مثله كرامة لولي ، أو معجزة لنبي آخر. نعم قد يرد في بعض المعجزات نص قاطع على أن احدا لا يأتي بمثله اصلا كالقرآن ، وهو لا ينافي الحكم بأن كل ما وقع معجزة لنبي يجوز أن يقع كرامة لولي. لنا على الجواز ما مر في المعجزة من إمكان الأمر في نفسه ، وشمول قدرة الله تعالى. وذلك كالملك يصدق رسوله ببعض ما ليس من عاداته ، ثم يفعل مثل ذلك إكراما لبعض أوليائه ، وعلى الوقوع وجهان :
الأول ـ ما ثبت بالنص من قصة مريم عند ولادة عيسى (عليهالسلام) ، وأنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال : يا مريم أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله. وقصة أصحاب الكهف ، ولبثهم في الكهف سنين بلا طعام وشراب. وقصة آصف وإتيانه بعرش بلقيس (١) قبل ارتداد الطرف. فإن قيل : كان الأول إرهاصا لنبوة عيسى ، أو معجزة لزكريا ، والثاني لمن كان نبيا في زمن أصحاب الكهف ، والثالث لسليمان صلىاللهعليهوسلم ، قلنا : سياق القصص يدل على أن ذلك لم يكن لقصد تصديقهم في دعوى النبوة ، بل لم يكن لزكريا علم بذلك ، ولذا سأل. ونحن لا ندعي إلا جواز ظهور الخوارق من بعض الصالحين ، غير مقرونة بدعوى النبوة ، ولا مسوقة لقصد تصديق نبي ، ولا يضرنا تسميته إرهاصا أو معجزة لنبي هو من أمته ، على أن ما ذكرتم يرد على كثير من معجزات الأنبياء لجواز أن يكون معجزة لنبي آخر.
والثاني ـ ما تواتر معنا وإن كانت التفاصيل آحادا من كرامات الصحابة ،
__________________
(١) قال تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ : هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ). سورة النمل آية رقم ٤٠.