من الغير لا محالة ، والهداية وإن اعتمدت على غزارة العقل ففوائدها يمكن فيها الاستعارة بطريق المراجعة والاستشارة ، والعلم أيضا يمكنه تحصيله بالاستفتاء واستطلاع رأى العلماء ؛ والورع هو الأساس والأصل ، وعليه يدور الأمر كله. ولا يغنى فيه ورع الغير ، وهو رأس المال ومصدر جملة الخصال ، ولو اختل هذا ـ والعياذ بالله! ـ لم يبق معتصم فى تحقيق الإمامة ، فالحمد لله الّذي زين أحوال الإمام الحق المنصور إمامته ، بالورع والتقوى حتى أو فى فيه على الغاية القصوى فتميز بمتانة الدين وصفاء العقل واليقين فى جماهير الخلفاء ، حتى ظهر من أحواله ، منذ تجمل صدر الخلافة بجماله ، من إفاضة الخيرات والعطف على الرعايا وذوى الحاجات وقطع العمارات التى كانت العادة جارية بالمواظبة عليها ، كل ذلك إضرابا عن عمارة الدنيا وإكبابا على ما ظهر من عمارة الدين ؛ هذا مع ما ظهر من سيرته فى خاصّة حالته ، من لبس الثياب الخشنة واجتناب الترفه والدعة ، والمواظبة على العبادات ، ومهاجرة الشهوات واللذات ، استحقارا لزخارف الدنيا ، وتوقيا من ورطات الهوى ، والتفاتا إلى حسن المآب فى العقبى ، فهو على التحقيق الشابّ الّذي نشأ فى عبادة الله ، هذا كله فى عنفوان السن وغرة من الشباب وبداية الأمر ، ينبّه العقلاء لما سينتهى إليه الحال إذا قارب سن الكمال :
إن الهلال إذا رأيت نموّه |
|
أيقنت أن سيصير بدرا كاملا |
والله تعالى يمده بأطول الأعمار وينشر أعلامه فى أقاصى الديار.
فإن قال قائل : كيف تجاسرتم على دعوى التقوى والورع ، ومن شرطه التجرد عن الأموال حتى لا يأخذ قيراطا إلا من حلّه ، ولا يدعه إلا فى مظنّة استحقاقه ، وقد قال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (١). وليس يتم الورع بالمواظبة على الفرائض واجتناب الموبقات والكبائر ، بل عماد هذا الأمر العدل واجتناب
__________________
(١) رواه البخارى ومسلم وأحمد من أبو داود.