محرابه يسأل ربّه تعالى أن يعلّمه صنعة يأكل منها ، فعلّمه صنعة الدروع وألان له الحديد ، فذلك قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] الآية.
هذا خطر الإمامة ، وفيها أحاديث كثيرة يطول إحصاؤها ، وهذا القدر كاف للبصير المعتبر ، وعلى الجملة فيكفى من معرفة خطرها سيرة عمر رضى الله عنه ، فإنه كان يتجسس ويتعسس ليلا ليعرف أحوال الناس وكان يقول : «لو تركت جربة على ضفة الفرات لم يطلى بالهنا (١) فأنا المسئول عنها يوم القيامة» ؛ ومع ذلك فقد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : «دعوت الله تعالى اثنتى عشرة سنة : اللهم أرنى عمر بن الخطاب فى منامى ، فرأيته بعد اثنتى عشرة سنة كأنما اغتسل واشتمل بالإزار ، فقلت : يا أمير المؤمنين! كيف وجدت الله تعالى؟ قال : يا أبا عبد الله! كم منذ فارقتكم؟ قلت : منذ اثنتى عشرة سنة. قال : كنت فى الحساب إلى الآن. ولقد كادت تزل سريرتى لو لا أنى وجدت ربا رحيما». فهذه حال عمر ، ولم يملك من الدنيا سوى درّة (٢) ، فليعتبر به.
وقد حكى عن يزدجرد بن شهريار آخر ملوك العجم أنه بعث رسولا إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه ، وأمره أن ينظر فى شمائله. فلما دخل المدينة قال : أين ملككم؟ قالوا : ليس لنا ملك ؛ لنا أمير خرج برا ، فخرج الرجل فى أثره فوجده نائما فى الشمس ودرّته تحت رأسه وقد عرق جنبه حتى ابتلت منه الأرض. فلما رآه على حالته قال : «عدلت فأمنت فنمت ؛ وصاحبنا جار فخاف فسهر. أشهد أن الدين دينكم ؛ ولو لا أنى رسول لأسلمت ، وسأعود بإذن الله تعالى».
ومنها أن يكون الوالى متعطشا إلى نصيحة علماء الدين ومتعظا بمواعظ الخلفاء الراشدين ومتصفحا فى مواعظ مشايخ الدين للأمراء المنقرضين. ونحن نورد الآن بعض تلك المواعظ : فإنه قد روى أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبى موسى
__________________
(١) الهنا : القطران ، يطلى به البعير الأجرب ؛ أو الناقة الجرباء ؛ أو الدواب عامة.
(٢) الدرة : العصا القصيرة ، يضرب بها.