والاستغناء عن النظر والاجتهاد بالظن ، فهذه الخاصية هى المطلوبة ، وقد تفرد بهذه الدعوى عترة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذريته ؛ وصرف الله دواعى الخلق عن معارضتهم فى الدعوى لمثلها ليستقر الحق فى نصابه وينجلى الشك عن قلوب المؤمنين رحمة من الله ولطفا ، حتى إن فرض شخص يدعى لنفسه ذلك فلا يذكره إلا فى معرض هزل أو مجادلة. فأما أن يستمر عليه معتقدا أو يعمل بموجبه ، فلا.
وهذه مقدمات واضحة ، لم نهمل من جملتها إلا الدليل على إبطال نظر العقل ، حيث قلنا : الحق إما أن يعرفه الإنسان بنفسه من عقله ، أو يتعلمه من غيره. ونحن الآن ندل على بطلان العقل بأدلة عقلية وشرعية وهى خمسة :
أما (الأول) وهى دلالة عقلية : أن من يتبع موجب العقل ويصدقه ففى تصديقه تكذيبه وهو غافل عنه ، لأنه ما من مسئلة نظرية يعتقدها بنظره العقلى إلا وله فيها خصم اعتقد بنظر العقل نقيضها. فإن كان العقل حاكما صادقا ، فقد صدق عقل خصمك أيضا. فإن قلت : لم يصدق خصمى ؛ فقد تناقض كلامك ، إذ صدقت عقلا وكذبت مثله. فإن قلت : صدق خصمى فخصمك يقول : أنت كاذب مبطل. وإن زعمت أنه لا عقل لخصمى وإنما العقل لى ـ فهذه أيضا دعوى خصمك. فبما ذا تتميز عنه : أبطول اللحية ، أم ببياض الوجه ، أم بكثرة السعل (١) ، أو الحدة فى الدعاء!؟ وعند هذا يطلقون لسان الاستهزاء والاستخفاف ، معتقدين أن لهم بكلامهم اليد البيضاء التى لا جواب عنها.
(الدلالة الثانية): قولهم إذا حاكم مسترشد تشكك فى مسألة شرعية أو عقلية ؛ وزعم أنه عاجز عن معرفة دليلها ـ فما ذا تقولون له : أفتحيلونه على عقله ـ ولعله العامىّ الجلف الّذي لا يعرف أدلّة العقول؟ أو هو الذكى الّذي ضرب سهام الرأى على حسب إمكانه فلم تنكشف له المسألة وبقى متشككا؟ أفتردونه إلى عقله الّذي هو معترف بقصوره؟ وهذا محال أو تقولون له تعلم طريق النظر ودليل المسألة
__________________
(١) السّعل : السّعال ، بحركة مصطنعة.